العمل الفني: الابتكار من الداخل والتفاعل مع الخارج

مقال إلحاقي لمقال رأيان في الممارسة الفنية، موقف واحد من تقدمية الفن

كتابة علي المجنوني


يايوي كوساما، ١٩٧٦ ،Horse Play

حَظِيَ مقالي السابق المنشور في «ثلوثين» والمعنون «رأيان في الممارسة الفنية، موقف واحد من تقدمية الفن» بنقاشات أثارها القرّاء معي لاستكمال الحديث حول موضوع المقال أو مراجعة بعض ما جاء فيه. وتبيّن لي من تلك النقاشات أنني في الوقت الذي نجحتُ فيه في المجادلة أن الفريقين اللذين تناولت رأييهما المتعلقين باتجاه الفن يتفقان في تصوّر تقدّم خطّي للفن، لعلّي أخفقتُ في تبيان ما يترتب على ذلك الاتفاق، بعد أن اكتفيت بالاعتماد على استعارة جون بورتسلاپ الذي رأى في حركة الفن دلتا عريضة متعددة الجداول والمسارب في توضيح أنه ليس هناك بداية مثاليّة واحدة يمكن وصفها للفنان باعتبارها نقطة انطلاق، ولا مسار وحيدا يُتَّخذ باعتباره المسار الأنسب للممارسة الفنية. ولذلك فقد لزم أن أتوسّع في هذا المقال الإلحاقي في توضيح مقصدي من طرح الفكرة أصلا ومن التوفيق بين رأيين مختلفين ظاهريا متطابقين فعليا، ولتحقيق ذلك سأبدأ بإعادة صياغة حجّة المقال المتمثلة في نقطتين رئيستين هما: 


النقطة الأولى: لم يكن التوفيق بين ذينك الفريقين إلا من حيث تبيان أنهما وإنِ اختلفا ظاهريًا في رأييهما حول الاتجاه الذي يجب أن يسلكه الفنان (المبتدئ خاصة) في ممارسته، فهما في واقع الأمر يتبنّيان موقفا مشتركا وهو تقدمية الفن. على ضوء هذا الموقف يتطور الفن تاريخيا في مسار خطّي يستبدل جديدُه قديمَه أو يُبطل قيمته وأهميته. وهذا الموقف ترفضه صراحةً الآراءُ التي أوردتُها في مقالي السابق، ولا حاجة لإعادة سردها في هذا المقام. ولكن ينطرح السؤال التالي: إنْ لم يتقدم الفنُّ في مسار خطّي واحد، فما الشكل الذي يتخذه تطوّر الفن تاريخيا؟ الجواب هو أن للفن مساراتٍ متعددة تحدد اتجاهَها السياقاتُ التي توجد فيها تلك المسارات، وأن التطورَ الناتج عن تراكم الخبرات لا يساوي التقدمَ الخطّيّ أحادي الاتجاه. هنا يجب أن أذكّر أن التعددية والاختلاف في جداول الدلتا العريضة، التي هي حركة الفن كما صوّرها بورتسلاپ، يفرضان أيضا تعددية واختلافا في نقاط الانطلاق والمسارات الفنية لكل فنان، كما يُبطلان الوصاية الأدبية المنطلقة من ادّعاءات الأصالة والريادة التي حاولتُ توضيح انطواء كلّ خطاب من الخطابين آنفَي الذكر عليها.


النقطة الثانية: قولي إنّ كلا الفريقين على خطأ فيما يتصل بموقفهما من تقدمية الفن لا يعني نفيَ الصواب بالكليّة عن رأييهما، وإنما كان نقدي مرتبطا بما ارتكز عليه كل فريق في تصورّاته عن حركة تطور الفن. فعلى سبيل المثال يجب الاعتراف بأهمية التدرّج والتأسيس المتأنّي للفنان (كما ينادي الفريق الأول) في نفس الوقت الذي يجب فيه أن يكون الفنان ابن زمانه مشتبكا مع اللحظة الراهنة (كما يطالب الفريق الثاني). وأحسب أنّ علينا العمل دوما على إزالة التعارض بين هذين المتطلبين من أجل إذابة استقطابٍ فنيّ متوهَّمٍ أصبح يحول بين الحوار بين اثنين من أبرز الخطابات الفنية. 

الآن، بعد هذا العرض، ينبغي أن يُفهم من مقالي السابق عدد من الأطاريح وثيقة الصلة، تفصيلها الموجز كالتالي: 

أولا: مجرد ممارسة الفن ضمن هذه المدرسة الفنية أو تلك، أو استخدام هذا الأسلوب الفني أو ذاك، لا يمنح العمل الفني قيمة تلقائية ومجانية. لا تعني ممارسة الفن المعاصر، كالفن المفهومي مثلا، بالضرورة الانتصار للحظة ومواكبتها، كما لا يعني بالضرورة رسمُ لوحة تشكيلية بالفرشاة والأصباغ تخلفا أو رجعية.  وفي الوقت نفسه، كما قد يعني أحيانا استخدام أساليب معاصرة فعلا ركوب الموجة أو الانسياق خلف الموضة، قد يشير أحيانا استخدام أساليب أقدم إلى انسداد في الرؤية الفنية. إن اختيار المدرسة الفنية أو الأسلوب أو المادة أو التكنيك في عملٍ ما يجب أن يُمليه (١) موضوع العمل نفسه، و (٢) الرؤية الفنية التي أفرزت العمل الفني، ثم (٣) ميل الفنان نفسه لتلك الجوانب من العملية الإبداعية واستخدامه لها. في أغلب الأحيان، وُجدت المدارس والأساليب الفنية المختلفة لتخدم أغراضا فنية استلزمت استعمال الموجود من أساليب أو ابتكار ما ليس موجودا منها وبرزت الحاجة إليه. على هذا الأساس نستبعد وجاهة استمداد القيمة الفنية من مجرد مدرسة أو أسلوب أو تكنيك، ونؤكد على أن ما يهمّ حقّا هو ما يحدث داخل العمل نفسه من ابتكار والانصياع لنزعة أعدّها أكبر محرضات الممارسة الفنية، وتفصيلها في الفقرة التالية. 


اليقطينة الصفراء، يايوي كوساما، ١٩٩٤

ثانيا: لا نُغفل نزعة الفن إلى التجديد، وهي نزعة جوّانية ما تنفكّ تدعو الفنان إلى الاستجابة إلى إلحاحها. غير أن التجديد لا يساوي الموضة. على العكس من ذلك، يجب أن ينبع التجديدُ في العمل الفني من داخله ويشكّل محرّكه الإبداعي أو طاقته الجمالية. ولتقييم هذا التجديد يُنظر إليه على ثلاث مستويات: (١) التجديد ضمن إنتاج الفنان وحده، و (٢) التجديد على مستوى المشهد المحلي أو الإقليمي الذي يضع الفنان نفسه فيه ويعترف بموضعه منه، ثم (٣) التجديد على مستوى المدرسة أو الأسلوب الفني إن لم يكن الفن عامة. ولا ينبغي أن يكون إسهام العمل الفني التجديدي أو الابتكاري على هذه المستويات بالضرورة متساويا. بعبارة أخرى، ما يعتبر تجديدا أو ابتكارا على مستوى معيّن لا يعني تلقائيا التجديد أو الابتكار على باقي المستويات. فقد يُحدث فنان قفزة أسلوبية في عمل جديد له بالنسبة إلى أعماله السابقة، لكن تلك القفزة لا تُحرز أدنى أثر في المشهد الفني المحلي الذي يعمل فيه الفنان لأنها ليست قادرة على الإسهام فيه. 

ثالثا: مستويات التجديد أعلاه تكوّن السياقات التي يُنتج ضمنها العمل الفني، وهي السياقات التي تحدد بدورها قيمة العمل الفني من جهة، وتوجّه توقعات المتلقي من جهة أخرى. هذه السياقات تتداخل وتتقاطع وتتنوع وتتبدل، كما أنها ليست واضحة المعالم على الدوام، غير أنّ على الفنان أن يكون واعيا بها ملمّا بدوره في التفاعل معها. وعليه فإن الأثر الذي يتركه العمل الفني مرهون بمدى إسهامه في السياقات التي أُنتج فيها ووُزّع واستُهلك، الإسهام الذي لا يتحقق من دون ابتكار داخلي يحدث داخل العمل الفني ذاته. إن ضربات فرشة ڤان غوخ المثقلة باللون، على سبيل المثال، ونافورة مارسيل دوشامب، بل وحتى نقاط كوساما يايوي الملونة، لم تكن سوى تمثيل صريح للابتكار الجُوّاني، والتوقع الذي يخلقه ذلك الابتكار، والذي يمكّن بدوره العملَ الفنيَّ من التحاور مع السياقات المعاصرة له. 

في الختام، أطمح إلى أن يكون الاتفاق حول الأطاريح المفصلة أعلاه نقطة انطلاق لمزيد من النقاش الذي أزمع على إثارته برويّة حول واقع الفن في المشهد السعودي، ويضع القيمة الفنية للعمل الفني أو مجموع الأعمال الفنية للفنان موضع المساءلة بصرف النظر عن الاتجاهات الفنية التي يعمل الأخير في نطاقها. 

Previous
Previous

فن ما بعد الاستعمار

Next
Next

عالم وناقد وبقرة دخلوا معرض فني.. ماذا رأوا في الفن؟