رأيان في الممارسة الفنية، موقفٌ واحدٌ من تقدمية الفن
كتابة علي المجنوني
على رغم أن قلة من الفنانين في المشهد الفني المحلي تتاح لهم الفرصة للتعبير عن تصوراتها المتعلقة بالفن، فإن فريقين يمكن تمييزهما بسهولة، خاصة فيما يتعلق بالموقف من التوجه الذي ينبغي أن تتخذه الممارسة الفنية اليوم. يعبّر هذان الفريقان عن وجهتي نظرٍ لهما رواجٌ في المشهد الفني، وقد تبدوان في ظاهرهما رأيين متضادين اختلافهما محسوم، ولا بدّ أن يفترقا أو يصطدما، كما يصعب في كلا الحالتين التوفيق بينهما.
الموقف الأول يتبناه فريق من الفنانين التشكيليين يأخذون على نزوع كثير من الفنانين الشباب إلى اتباع أساليب فنية تنتمي لمدارس معاصرة أو حديثة من دون تجريب سابقاتها أولا، ويقترحون بأبوية أنه ينبغي على الفنان أن يبدأ من حيث بدأ الآخرون، أي أن يتدرّج في مدارس الفن وأن يتابع تطور المدارس والمذاهب الفنية كما حدث تاريخيا إلى أن يستقرّ أخيرا على ما يوافق رؤاه الفنية ويخدم موضوعاته ويحقق أغراضه. بالنسبة لهؤلاء الفنانين مثلا، على الفنان ألّا يرسم لوحة تجريدية حتى يكون قد جرب الانطباعية ثم التعبيرية وهكذا. يمكن وصف هذا الموقف بأنه موقف محافظ وتقليدي، فهو يُعلي من شأن أن يؤسس الفنان نفسه تأسيسا مدروسا يرتكز على الاحتذاء بالطريقة نفسها التي تطور بها الفن.
أما الفريق الآخر فيمثله مجموعة من الفنانين تعتمد ممارستها الفنية على ما هو معاصر من الأساليب والمواد والرؤى الفنية. يرى هذا الفريق أن على الفنان اليوم أن يبدأ من حيث انتهى الآخرون، وأن يكون وفيّا للّحظة من دون حاجةٍ إلى المرور بمدارس الفن وأساليبه السابقة. بالنسبة لهؤلاء الفنانين، يعتبر رسم لوحة تعبيرية مثلا ممارسة رجعية، وبعضهم يمقت الفن التشكيلي جملة وتفصيلا بحجة أنه يقصُر دون التعبير عن مقاصد الفنان المعاصر. يمكن وصف هذا الموقف بأنه تقدميّ، فهو يُعلي من شأن أن يكون الفنان مواكبا لعصره، إن لم يكن استشرافيا قادرا على تحديد توجهات الفن المستقبلية من أجل استثمارها.
أحسب أن الاختلاف بين هذين التصورين وهميّ، وأن التوفيق بينهما ممكن إذا أدركنا أن كلا الفريقين يرى في الفن تقدميّة حتمية، منشؤها تصوّرٌ خطّيٌ يفسّر حركة تطور الفن، وهو تصورٌ في أحسن أحواله مُجانبٌ للصواب. إن من يرى أن الفنان لا بد أن يتدرج في مدارس الفن لا يختلف كثيرا عمّن يرى أن الفنان لا بد أن يبدأ من آخر ما توصلت إليه الفنون. وفي كلا الحالتين لا يستقيم التسليم بأن الفن يسير في اتجاه واحد، وأن جديدَه يُبطل قديمَه.
هذا التصور التقدمي للفن، على الرغم من جاذبيته لدى كثيرين فيما يبدو، دُحض غيرَ مرّة. فمن أبرز المرافعات التي قُدّمت ضده ما كتبه المؤلف الموسيقي الهولندي جون بورتسلاپ John Borstlap في مقالة عنوانها «أسطورة التقدم في الفنون: حول الانحباس بين الماضي من جهة والحداثة من جهة أخرى» انتقد فيها ربط التقدمية بالجودة والقيمة في الفن. استدرك بورتسلاپ بأن التقدّم قد يحدث على مستوى المواد التي يستخدمها الفنانون، كالأصباغ والفرَش والورق مثلا، لكنه لا علاقة له بأشياء من قبيل التعبير والرؤية الفنية وبراعة التنفيذ. كتب:
«ليس الوضعُ الحالي للفنون البصرية وللموسيقى (الجادة) على السواء نتيجةً لتطوّر خطيّ «تقدميّ» في أشكال الفن المتعددة، ولكن لتدفق دلتا عريضة تنشر جداولها العديدة لأن ضفاف تيّار الفن التقليدي قد فقدت تدريجيا شكلها المستقر إلى حدّ ما منذ أفول العصور القديمة.»
وجادل بورتسلاپ في مقالته أن الفنان لا ينبغي أن يحاول أن يكون تقدميا، لأنه حتما سيكون معاصرا مهما فعل أو تصوّر، بالضبط كما لا ينبغي أن يحاول أن يكون محافظا. كما أوضح أن تصوّرات الحداثة والجدّة التي هيمنت على الإنتاج الفني في الغرب كانت الدافع وراء التطورات في الفن، ولكنه أشار إلى مفارقةٍ فحواها أن الحداثة والمفاهيمية لم تسعيا يوما في طلب العظمة الفنية، ما يفسّر على حد قوله «الاختفاء التدريجي للعظمة من الفنون البصرية والموسيقى على حدّ سواء». وفي هذا السياق أشار إلى الخلط الذي يحدث بين الابتكار والاختراع من جهة وبين التقدّم من جهة أخرى، قائلا
إن الابتكار، وإن كان ظاهرة حديثة نسبيا، فإن الفنانين لم يتوقفوا يوما عنه، ولكن الابتكار كان فيما مضى جزءًا من ممارسة أولئك الفنانين، بل نتيجةً لها، لا محرّكا قصديا لتلك الممارسة أو هدفا واعيا يسبقها.
هذا الرأي يعضده رأيٌ سابق له عبّر عنه الناقد والفنان البريطاني وليم هازلت William Hazlitt، حين ميّز بين الفنون الجميلة، كالرسم والشعر، وبين العِلم من حيث قابلية كلٍّ منهما للتقدم. قال هازلت في مقالته المعنونة «لماذا لا تكون الفنون تقدمية» إن ما هو ميكانيكيٌّ ويمكن اختزاله في قانونٍ فهو تقدمي، أما ما ليس ميكانيكيا ومحددا، ويعتمد على العبقرية والذوق والإحساس فسرعان ما يصبح ثابتا أو رجعيا يفقد مِن تحوّله أكثر مما يكسب. ولئن التزم هازلت موقفا أرثودكسيا قد يستدرج نقاشا حادا، فإن رسمَ حدٍّ بين الفن والعِلم مفيدٌ على الأقل في نقد تقدمية الفن. ففي حين أن كل مسألة في العلوم لا تبنى إلا على ما سبق إقراره من اكتشافات علمية سابقة، لا يستلزم أن يكون العمل الفني رهينا لسردية هائلة مثل تقدمية الفن، خاصة وأن هازلت يقرّ أن التقدمية والإتقان يمكن أن يُفهما في نطاق ضيق داخل ممارسة الفنان، أي بعد المحاولات المتكررة يحقق الفنان تقدمية نسبية، وهذا مشابه لما قاله بورتسلاپ إذ رأى أن التقدم يحدث فعلا على مستوى الموادّ التي يستخدمها الفنان.
أخيرا هناك أسباب أخرى تسوّغ استجواب الموقفين المفصّلين أعلاه. أولها أن الموقف المحافظ ينطوي على ادّعاء بأن معتنقيه وصلوا سنام الفن، في حين أن الموقف التقدمي ينطوي على ادّعاء أن أصحابه روّاد. كما أن موقف الفريق الأول مبنيٌّ على مغالطة خطيرة، من حيث إنها تحصر تطور الفن على سردية أوروبية المركز تُغفل سياقات فنية أخرى كثيرة إن لم تكن مسؤولة عن تهميشها. أما الفريق الثاني فمستند إلى موقف لا يقلّ خطورة عن الأول، ففيه استسلامٌ للعولمة ومنطق السوق يستتر بحجّة أن موضوعات الفن أصبحت عالمية ولم تعد هناك خصوصيات تجعل من أصل الفنان وبيئته مصدر اختلاف أو تميّز. ومع أن سياق هذا المقال لا يتسع للاستفاضة في هذه الأسباب، أكتفي بضرورة ربط المدارس الفنية بالسياقات والموضوعات والرؤى الفنية، بل وحتى بالتفضيلات الشخصية للفنان ذاته وممارساته. إضافة إلى ذلك، يجدر التشديد على أن رفض تقدمية الفن لا يعني إطلاقا رفض التراكمية في تطور الفن، سواء على مستوى الممارسة الشخصية أم على المستوى العام، ولكن التسليم بأهمية تلك التراكمية لا يعني بحال من الأحوال الركونَ إلى تصوّر تقدميّ خطيّ لحركة تطور الفن.
وعلاوة على أن الفريقين يستندان إلى تصوّر تقدّمي يرى في حركة تطور الفنون حركة خطية، فإنهما يقصران الممارسة الفنية على شكل واحد، ممارسين بذلك وصاية غير ضرورية قد لا يسعيان من خلالها إلا إلى تكريس اعتراف ذاتي. وبالطبع لا يعني هذا بأي حال من الأحوال الترّفع عن إطلاق أحكامٍ وإصدار قيمٍ على الإنتاج الفني (ما أحوج المشهد الفني المحليّ إلى هذا!)، ولكن فيه دعوةٌ إلى التحرّز من تقييد مسارب الدلتا العريض الذي هو الفن، الذاتيّ منها والعام، وتضييق شساعة الممارسة الفنية.