المقهى: حاضنة اللغة والحكايات

كتابة ندى القرني

يُقال قديمًا إن لغة التواصل الأولى بدأت مع القهوة. في عصر التنوير، كانت صالونات الحداثة في باريس مثلًا مساحات مميزة لتحفيز الإبداع وتعزيز التواصل بين الناس. لعبت القهوة دورًا بارزًا في بناء الأفكار وتبادل القصص، مما ساهم في تطور الجوانب الاجتماعية والمنهجية.

ظهرت فكرة المقاهي في بدايات القرن الخامس عشر، وانتشرت حول العالم، في مدن مثل دمشق وفيينا وإنجلترا، ووصلت إلى السعودية تحت مسمى “القهوة”. عن باريس، يقول الروائي هنري جيمس: “هنا، يمكن للمرء أن يجلس لساعات دون أن يزعجه أحد، يقرأ ويكتب صباحًا، يعمل ظهرًا، ويضحك مع الأصدقاء ليلًا.” المقاهي لم تكن مجرد أماكن بل خليطًا من روائح وحكايات متنوعة.

المقهى (القهوة) كثيرًا ما ترتبط بالقراءة، التأمل، والصمود. ربما اللحظة التي عرف فيها المرء نفسه لأول مرة كانت بجوار نافذة مشرعة وهو يحتسي كوبًا من القهوة، مليئًا بذكريات وضحكات قديمة. في السفر والغربة، في ضجيج الحياة، تأتي القهوة دائمًا كمقدمة للكلمة والشعور، تهيئ لدخول فصل جديد ولحظة طويلة. وكما قال محمود درويش: “أعرف قهوتي وقهوة أمي وأصدقائي. لا قهوة تشبه أخرى.”

القهوة رمز الصباح، وهي تأتي بأفضل طعم في هذه الفترة. كان نجيب محفوظ يعتاد بدء يومه بها قائلًا: “دي قهوتي الخاصة اللي بروحها الصبح بدري.” من السابعة حتى التاسعة صباحًا، تحفز القهوة الذات وترتب الأعمال، وتخلق مساحة للأفكار والإبداع.

تُعتبر المقاهي بيئة حاضنة للحكمة، ولأجمل مشاهد القراءة والحديث والتفكير العميق. كما عبّر الممثل الإيطالي نينو مانفريدي في إعلان شهير: “تهبط القهوة في جوفي، لكنني أرتفع بها إلى العُلا.” وأفلاطون نفسه أشار إلى أن الحكمة تُستلهم من شرفات المقاهي المفتوحة.

القهوة، التي بدأت بحبة صغيرة، انتقلت عبر المدن والقصص، لتصبح كما نعرفها اليوم: بيت الحكايات، والمكان الذي يختزل في مذاقه حياة كاملة.

Previous
Previous

حديقةٌ داخليّة

Next
Next

الكتابة عن ذاتي القديمة