الفن والاستشراق

كتابة معاذ العريني


يقول ديلاكروا عندما زار الشرق «عند كل خطوة، هناك لوحات جاهزة للرسم». بعد مقولة ديلاكروا، سعى الفنانون الفرنسيون إلى السفر لرؤية المنطقة المثيرة التي جعلت ديلاكروا يذهل عند كل خطوة ويرسمها. فبدأت حركة فنية في فرنسا عنت بدراسة الشرق ورسم لوحات استشراقية.

عند الحديث عن الاستشراق والمستشرقين تختلف الأصوات، لكن سأحاول أن أعرف الاستشراق بتعريف بسيط كي يمكن فهم ما أتحدث عنه. يقول إدوارد سعيد في كتابه الشهير الاستشراق، أن الاستشراق «تحيز خفي ومستمر محوره تفوق الحضارة الأوروبية ضد الشعوب العربية الإسلامية وثقافتها واختزال الشرق إلى جوهر خيالي (الشعوب الشرقية)» لكن ما الذي أوصلهم إلى هذا التفوق، بعد جهل مر بهم وتفوق من الشعوب الشرقية الإسلامية؟

في القرن الرابع عشر بدأت حركة ثقافية من إيطاليا ثم انتشرت في أنحاء أوروبا. كانت حركة ثقافية استطاعت أن تنتشل أوروبا من جهل العصور الوسطى إلى عصر النهضة. ثم اتبع عصر النهضة حركة فكرية سميت بالتنوير التي بدأت في أوروبا وتأثر بعض المفكرين التنويريين بمخطوطات عربية. فقد بدأ آنذاك اهتمام ملوك وأمراء ونبلاء أوروبا بجمع أو سرقة المخطوطات العربية، وترجمتها، وبدأوا في تعلم اللغة العربية، ثم بدأت حركة الاستشراق عملها الدؤوب لدراسة الشعوب الشرقية.

تقول زينات بيطار في كتابها الاستشراق في الفن الرومانسي الفرنسي «أنه بنصف القرن التاسع عشر زار الشرق حوالي ١٥٠ فنان». زار الفنان الفرنسي ديلاكروا الشرق في عام ١٨٣٢ في رحلة دبلوماسية تحمل طابع رسمي لمدة ثلاثة أيام، وكان ديلاكروا يكتب يومياته، فذكر فيها «أن جهل البربر يمنحهم السعادة والطمأنينة... أما نحن الذين بلغنا الذروة فما يمكن أن تمنحنا إياه الحضارة الأكثر تطورا؟ ولهذا فإن الجمال يكمن في كل شيء يفعلونه. أما نحن الذين نرتدي «الكورية» وأحذيتنا الضيقة اللماعة وملابسنا المضحكة التي تبعث على الإشفاق، فإن الجمال ينتقم منا لكوننا أصحاب معرفة». من قراءة يوميات ديلاكروا يمكنك أن تفهم النظرة الاستشراقية، فعلى الرغم من كره ديلاكروا لباريس وفرنسا، إلا أنه عندما يواجه أي شيء شرقي يعمد إلى مقارنته بخلفيته الأوروبية. فعند المقارنة بين العادات الأوروبية والشرقية وتفوق الشرقية فأنه لا يقابل التفوق بتفوق تام، فكرهه لموطنه لم يزل أي من التحيزات الاستشراقية.

وسأذكر أربعة أعمال استشراقية بالترتيب حسب التاريخ لأظهر كيف كانت النظرة الأوروبية الفنية التي لا تزال حاضرة، ونستطيع ملاحظتها في نتائج تجربة أي من فنون الذكاء الاصطناعي التي تعتبر الآن نقطة تحول للفنون.

رجل بالزي الشرقي، رامبرانت، ١٦٣٢م

رامبرانت الرسام الهولندي الذي ولد في عام ١٦٠٦، وكان رساما تاريخيا كثير ما يرسم أحداثا تاريخية تعكس تاريخه الثقافي والديني. تأثر رامبرانت بالمنمنمات الشرقية وقد بدأ هوسه بالشرق منها. وكان يطمح أن يكون رسام للتاريخ لكل الأزمنة. كان يرسم أحداثا تاريخية وقصصا تاريخية، كرسمه “الرحلة لمصر” لمريم ويوسف وعيسى، وزاد هذا من هوسه بالشرق لأن هذه الواقعة التاريخية حدثت فيه. بالإضافة إلى انتشار اهتمام الهولنديين في تلك الفترة بالغرائب والعجائب من شتى أقطار العالم، وخصوصا الشرق وجمعهم للمخطوطات والآثار الشرقية. وكان الاهتمام من الطبقة الأرستقراطية التي كان يحاول الوصول إليها ببعض رسوماته. لم يذهب رامبرانت إلى الشرق أبدا، إلا أنه بهذه اللوحة الزيتية التي رسمها بأبعاد ٩٨،٥ × ٧٤،٥ سنتيمترا في عام ١٦٣٥ بعنوان “رجل في زيّ شرقي”، التي لم تكن تمثل شخصا معينا وإنما تمثل لباس الشرق المعاصر آنذاك بنظر رامبرانت، أو تمثل لباس شخصية دينية تاريخية، حيث تبين ملامح شديدة الوضوح من الأنف الكبير واللحية الكثيفة. وأهم ما في اللوحة هو العمامة المفصلة والمرصعة بالألماس وبالريش الذي تمتاز به العمامة العثمانية، وتمتاز اللوحة أيضا بتأهب الرجل وشدته التي دائما ما كانت نظرة الرجل الغربي للشرقي بصفته رجلا متشددا جادا متأهبا دائما.


حاول رامبرانت برسمه ومحاكاته للأحداث التاريخية الدينية أن يبدأ مدرسة جديدة معنية بالأحداث الدينية التي حدثت في الشرق. فعلى الرغم من عدم نجاحه، ورفض المجتمع الهولندي آنذاك للإعمال التاريخية، وميلهم للأعمال التي تحاكي واقعهم من طبيعة وقصص، إلا أنه ترك أثر كبير على الأعمال الاستشراقية التي جاءت بعده.

الجمال الشرقي، لويس فاليرو، ١٨٧٧

لويس ريكاردو فاليرو، رسام ومخترع أسباني ولد عام ١٨٥١. كان رساما متخصصا في التصوير وأعمال الفنتازيا، وكان رساما شبه إباحيا، حتى أنه لم يلق شهرة واسعة وأغلب أعماله كانت تعرض بمعارض خاصة في أوروبا، بالإضافة إلى اهتمامه بالمواضيع الخيالية التي استطاع أن يبدع فيها. عمل على أعمال استشراقية، ومن أهمها لوحة الفتاة الشرقية التي كانت لوحة زيتية بأبعاد ٦٦ × ٥٥،٥ في عام ١٨٧٧ بعنوان “الجمال الشرقي”، الذي حاول فيها إظهار الجمال الشرقي. وكان يحرص في أغلب أعماله الاستشراقية على إظهار جمال الفريدة أو الفردة وهي من الحلي التي تغطي الرأس. ولكن أكثر ما يبرز بهذه اللوحة هو العيون الواسعة والشعر الغجري الطويل واشتباك الحاجبين ولبس الفتاة، حيث رسم البشتي المزخرف بزخارف بسيطة. فعلى الرغم من عدم زيارته للشرق إلا أنه لم يضف أي صورة نمطية اشتهرت آنذاك من المستشرقين الغربيين للشرق ولم يتأثر بالمنمنمات الشرقية. كان خيال لويس فريدا، لذلك لا تجد رسومات استشراقية مشابهة لأعماله لخيالة الباهر، فاستطاع أن يخرج بلوحة فريدة بالمقارنة عمّن لم يزوروا الشرق من قبل.


لم يكن تأثير لويس فاليرو كبيرا على الأعمال الاستشراقية بشكل عام بحكم عرض أعماله بمعارض خاصة للنخبة، لكن كان له تأثير على رؤية النساء الشرقيات من منظور غربي. فقد كان لا يظهر كامل الجسم كما يظهره في بقية أعماله، إنما يغطي بعضه ليبين صعوبة الفتاة الشرقية أو ليبين عفافها وحياءها

نصر الدين دينيه أو ألفونس إتيان ديني رسام فرنسي. ولد نصر الدين عام ١٨٦١، وزار الجزائر لأول مرة في ١٨٨٣، وفي عام ١٩٠٣ اشترى منزلا في بوسعادة في الجزائر وكان يقضي هناك ثلاثة أرباع كل عام. أصبح دينيه مفتونا بشمال أفريقيا وثقافتها لدرجة أنه اعتنق الإسلام في النهاية، وأعلن اعتناقه الإسلام في خطاب خاص عام ١٩١٣. أكمل حياته في الجزائر بعدما شارك بعدة معارض في فرنسا بعد إعلان إسلامه، وقد واجه الكثير من الانتقادات آنذاك بسبب إسلامه واتهامه بالتحيز للشرق. وقد نقد الحركة الاستشراقية وكتب كتاب “الشرق كما يراه الغرب”، ينتقد الحركة الاستشراقية الفرنسية. رسم هذه اللوحة الزيتية في عام ١٨٨٩ باسم “ساحر الثعبان”، وهي ممارسة استعراضية يتراقص فيها الثعبان وتثير استغراب المشاهدين، وهي نفس الممارسة التي رسمها الفنان جان ليون جيروم أيضا بعنوان “ساحر الثعبان” في رسمته التي استخدمها إدوارد سعيد في غلاف كتابه الاستشراق. إلا أن نصر الدين رسم البسمة على وجه الساحر والحاضرين واختار الألوان التي تبعث على السعادة وقد نقل المشهد تماما، ولم يضف عليه أي من الصور النمطية العربية كالزخارف أو النارجيلة، فعلى الرغم من رسم هذه الرسمة قبل إسلامه، لكن لم يتأثر بأي من المستشرقين من قبله واعتمد على النقل التام للمشهد، والذي لا نشاهده في أغلب رسومات المستشرقين الآخرين الذين يعمدون وضع بعض الطابع العربي من أجل أن يعرف أي مشاهد للعمل أن العمل عربي أو شرقي، خصوصا في فرنسا التي كانت اللوحات الاستشراقية توجد فيها بكثرة آنذاك.

أثرت أعمال نصر الدين دينيه في كيان نصر الدين، الذي بدأ أعماله الاستشراقية برسم الفرح والسعادة التي كانت تملأ وجوه الشرقيين التي لم يكن يجدها بفرنسا، وتأثر بالدين الإسلامي والعادات والتقاليد الجزائرية التي أعجب بها، مما جعله يغير اسمه وديانته، وبدأ محاربة الفنانين الاستشراقيين الآخرين الذين يرسمون الشرق بطريقة سيئة كما قال في كتابه المذكور سابقا، الذي نقد فيه الفنانين الاستشراقيين، والذي حاول أن يغير فيه بعض الآراء المغلوطة عن الشرق بحكم اختلاطه بهم.

بابلو بيكاسو الرسام الأسباني الشهير ولد عام ١٨٨١. لم يكن بيكاسو غريبا عن تاريخ الجزائر ولا عن الثقافة الجزائرية من حيث التأثير والتأثر، بل ارتبط بها في لحظات حساسة جدا كما ارتبط اسمه بأسماء إبداعية تشكيلية وأدبية جزائرية وأيضا بأسماء شكلت مركز المقاومة المعاصرة في الجزائر. فعلى الرغم من عدم زيارته للجزائر أبدا إلا أنه دعم الثورة الجزائرية وعمد إلى تحرير المرأة من النظرة الاستشراقية، بمعارضته للوحة الفنان ديلاكروا الذي رسم لوحة في عام ١٨٣٤ بإسم “نساء جزائريات في الشقة” بعد أربع سنوات من دخول الاستعمار الفرنسي للجزائر. ورسم بيكاسو “نساء الجزائر” بأبعاد ١١٤ × ١٤٦.٤، أثناء حرب التحرير عام ١٩٥٥، فكانت المفارقة بين اللوحتين أن ديلاكروا رسمها في بداية الاستعمار وبيكاسو في بداية التحرير. فعلى الرغم من أن لوحة بيكاسو كانت مستوحاة من لوحة ديلاكروا، إلا أنه كانت هناك بعض الاختلافات. فقد اهتم بيكاسو في فهم لوحة ديلاكروا، وكان يتردد على متحف اللوفر لمشاهدة اللوحة، وأثناء ستة أشهر رسم ١٥ نسخة، وكانت النسخة الأخيرة والأشهر هي أغلى لوحة في التاريخ من عام ٢٠١٥ وحتى عام ٢٠١٧. وحرص بيكاسو على إبقاء النارجيلة العربية والسجادة العربية وإضافة النافذة العربية التي لم تكن توجد في لوحة ديلاكروا، وحرص بيكاسو بأسلوبه التكعيبي أن يظهر الجسد من كلا الجانبين. هناك بعض الآراء لهذه اللوحة تقول إن بيكاسو كان يهاجم المرأة الجزائرية ولا يدعمها بإظهار بعض جسدها. أذكرهم بلوحة بيكاسو الذي رسمها لجميلة بوباشا، التي كانت مناضلة جزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وكانت قضيتها قضية رأي عام فرسم بيكاسو بورتريه لجميلة. تم استخدام اللوحة في الكتاب الذي أثار الرأي العام وأجبر الجيش على إطلاق سراحها بعام ١٩٦٢ بعد عامين من القبض عليها.

تعددت تأثيرات أعمال بيكاسو سواء على نشأة مدارس جديدة، أو تأثيره على العالم الفني بشكل عام. لكن عمل نساء الجزائر لم يكن هدفه التأثير على المدرسة التكعيبية فقط، بل كان يدعم الجزائر آنذاك، بمحاكاة لعمل كان يسعى للاستنقاص من نساء الجزائر (نساء الجزائر لديلاكورا)، ولم يختصر عمله على دعم الجزائر فقط والوقوف بصفها، بل كان أوسع من ذلك حيث كان يهدف إلى تحرير المرأة الشرقية عامة من النظرة الغربية التي تستنقص منها.


المراجع والمصادر

الاستشراق، ادوارد سعيد

الاستشراق في الفن الرومانسي الفرنسي، زينات بيطار







Previous
Previous

بين القراءة والتدوين

Next
Next

القيمة.. بين الكتاب والمكتبة