فنون الذكاء الاصطناعي، نقطة تحول للآلة وللإبداع البشري

تجارب وقراءة لبرامج مثل

Midjourney & DALL-E

كتابة إلهام الدوسري


تم توليد هذه الصورة بالذكاء الاصطناعي باستخدام اللغة. ثلوثين/ مدجورني: (مترجم من الإنجليزية) مجتمع من البشر والآلات يعيشون في تناغم على حافة المستقبل الملون تنمو منهم أجنحة

أكاد أُخطئ كل مرة بقولي "لعبة" مدجورني عند رغبتي في الإشارة "لبرنامج" مدجورني للذكاء الاصطناعي. لأن استخدامه مُسلّي وجاذب. وحتى أن المنصة التي تبثه هي منصة ألعاب الفيديو الشهيرة "دسكورد". كما للبرنامج أجواء تشاركية اجتماعية ضمن مجتمع افتراضي

إلا أن أكثر التساؤلات الأولية حول برنامج مدجورني وأمثاله تشمل ما إذا تعتبر ما تنتجه هذه البرامج فن أم لا، وهل ستحل محل المصمم الرقمي والفنان؟ وهل تضيع مسألة حقوق الفنانين مع سهولة وإتاحة استنساخ أساليبهم من قبل الآلة؟

إلا أن هناك تساؤلات أخرى، أكثر ثقلا من هوس الفكر الغربي تاريخيا بفرضية تسيّد الآلة، نجمت عن تجربتي الأولية وقراءاتي في الموضوع أشاركها هنا، إلى جانب بعض الصور الغريبة التي استمتعت بإنتاجها ببرنامج مدجورني خصيصا لهذا المقال

Midjourney

هو معمل أبحاث للذكاء الاصطناعي أنتج برنامج بنفس الإسم لتوليد صور فنية من خلال إدخال نصوص لغوية، يزعم أنه يهدف إلى أن يكون ماكينة للإبداع البشري. أحدث ضجة إعلامية عندما استخدمته المجلة البريطانية ذي إيكونومست لإنتاج صورة غلافها لشهر يونيو ٢٠٢٢


 

OpenAI

هو معمل أبحاث للذكاء الاصطناعي تأسس في ٢٠١٥ من قبل إيلون مسك وسام آلتمان وغيرهما، يشير في موقعه الرسمي أنه يهدف إلى توفير تقنية الذكاء الاصطناعي العام بشكل نافع ومتزن للبشرية ككل. وإلى جانب برنامجه

Dall-E

لتوليد الصور، (وهي كلمة مركبة من إسم الفنان سلفادور دالي وإسم الروبوت وول-ي من فيلم الرسوم المتحركة)، فإن معمل الأبحاث لديه برامج وتطبيقات أخرى لتوليد نصوص مكتوبة، ومحتوى كتابي يماثل ذلك المكتوب من قبل الإنسان، مثل برنامج

GPT

في نسخه الثلاثة حتى الآن، وبرامج أخرى مولدة للموسيقى، ولغة الترميز وغيرها باستخدام لغة الإنسان الطبيعية أو ما يسمى آلية الحث اللغوي أو الـ

prompt 

بالرغم من أن بناء برامج الذكاء الاصطناعي المنتِجة للصور الفنية تعتمد في إعدادها على مبرمجين متمرسين في علوم البرمجة والترميز والرياضيات، إلا أن تجربة مخاطبة الآلة كمستخدم هي أقرب للغز منها لمعادلة. فحين تغذي البرنامج بكلمات وعبارات بقصد إنتاج صور فنية، لن ينتج منها صور كما تريد بالضبط. إلا أنه مع كل مرة تخاطب فيها الآلة، تقترب من فهم حاجتها لعبارات وصفية أكثر تحديد. وكأنها طفل صغير بدأ يلفظ أولى كلماته بلغته الأم، فهو يتعلم من أخطائه معك ويتشرب لغتك أنت، وتتعلم أنت كيف تُلقّنه. فتستزيد وتتوجه في حث الآلة بشكل أدق، وتنتظر ماذا تنتج لك من بين احتمالات لا نهائية كل مرة. حتى إذا تخطيت مرحلة الإحباط أو الإنبهار من نتائجها، تبدأ في التشمير عن ساعديك لتتخيّر ذخيرتك اللغوية بعناية لتقترب من إصابة هدفك المتصور في المحاولة التالية

ثلوثين/ مدجورني: روبوت رضيع يتطلع لأن تحتويه

قبل تجربتي لبرنامج مدجورني، شاهدت بعض التحديات التي يتم خوضها عبر مقاطع يوتيوب، بين الفنان (الإنسان) وبين برامج الذكاء الاصطناعي المولدة للرسومات والصور الفنية مثل مدجورني، و دالـ-ي ٢ (وتنطق دالي) من شركة أوپن أَي آي. وأعترف أني شاهدتها بهدف تخفيف وطأة الهلع الأولى، التي شعرت بها حين انهالت أخبار تلك البرامج ومشاركات الأصدقاء المقدامين لنتائج تجاربهم للبرنامج الجديد، أثناء تصفحي الرتيب لتطبيقات جوالي. لأن محاولاتي لتجاهل صدمتي والتظاهر بأن التقنية الجديدة التي لا أفهمها لا ترعبني، لم تنجح في إزالة مخاوفي الذاتية من المجهول. ولا تزال هذه البرامج في مراحلها التطويرية والتجريبية، سواء كانت ذات قوائم انتظار طويلة أو كانت مفتوحة للاستخدام العام بالمجان أو مقابل رسوم شهرية

في هذه التحديات، يتم إعطاء الفنان والآلة نفس العبارات المفتاحية أو ما يسمى (الحث اللغوي، أو "الحث") لإنتاج كل منهما صورة نهائية تعبر شموليا عن مجموع تلك العبارات. يُحسم هذا التحدي بتصويت زملاء الفنان في مقر عمله على أي الصورتين هي الأقرب لتحقيق معنى الحث بصريا ولغويا، دون علمهم أيهما أنتج أي صورة 

في إحدى تلك المقاطع يظهر أحد مصممي الرسومات، واسمه تِم، وهو يتمالك توتره بتأكيده الواهن على حماسه للتحدي مع دالـ-ي ٢ بشكل لا يمكن إلا أن يستدعي التعاطف معه 

لكن تحت ضغط التحدي الذي تم تصويره على مدى ٣ أو ٤ أيام، بإشراف مدير تِم في العمل، يظهر تِم وقد شحب وجهه وظهرت له نفور على جانبي أنفه يشير إليهما في الأيام الأخيرة، حين يشتد انشغاله بأدائه مقابل الآلة 

 

ثلوثين/ مدجورني: حين تبدأ الروبوتات تسرق مؤونة مطبخك أيضا

تم إعطاء الرسام تِم وقت مفتوح في رسم العبارات المطلوبة، مقابل الثواني التي يستغرقها منافسه دالـ-ي لينتج كل صورة. يرسم تِم وهو يفكر بصوت عالي في الآلة تهدد مصدر رزقه.. وشغفه ومهاراته التي صقلها على مدى سنوات من عمره. بينما يعيش دالـ-ي في رغد الجهل واللامبالاة بمصير الإنسان 

إلا أنها تبقى آلة. لا تملك نية 

وتبقى مولّدة لصور. ليست حكواتية 

وتبقى رهينة الحث. ليست ذات عزيمة

هي فقط تُعنى بإنهاء أوامرنا التي تبرمجت عليها، لتنتج منها صور، مستعينة بمعرفتنا الجمعية التي تركناها لها في أنحاء الانترنت. بما تحويه من علوم غنية وفنون راقية ومفاهيم معقدة، وكذلك ما تنضح به من محتوى فارغ وعنصري ودموي ومؤذي. لترجع وتسقنا إياها الآلة - لكن بعد قيام المبرمجين خلف هذه البرامج بإعادة تدوير محتوى الإنترنت والمصادر المعرفية المفتوحة ومجموعات من البيانات الهائلة في هيئة شفرات وترميزات تستسيغها الآلة (شاهد فيديو مبسّط من ڤوكس يشرح آلية عمل التقنية)، وأيضا بعد حجبهم الكثير من العبارات والمفاهيم المرتبطة بالعنف والمحتوى الدموي أو الخاص بالبالغين أو غير اللائق.. الخ، تماشيا مع أهداف الشركات المعنية ببناء برامج الذكاء الاصطناعي هذه في تعزيز الإبداع البشري والنفع العام للبشرية

ثلوثين/ مدجورني: كيف تدرب روبوتك ليحل أزمة الجفاف العالمية

فمثلا تم إعطاء كل من الرسام تِم والبرنامج دال-ي مجموعة من العبارات كان من بينها

لوحة زيتية بأسلوب الموناليزا لعنزة تأخذ صورة بالآيباد

لينتجا الصورتين التالية

taken from the studio youtube channel نتائج تحدي بين فنان وبين برنامج دالي-٢، مأخوذة من قناة ذا ستوديو في يوتيوب

تابع مقطع الفيديو لمعرفة أيهما لمن.. لكن اختصر عليكم معرفة أن نتيجة الفوز في أغلب المهام تكون لصالح الفنان الإنسان على الآلة. لكن، الآلة لا زالت في مراحلها البدائية، وكذلك فهم الإنسان لها لا يزال يتطور. فيذكر المبرمجون وعلماء الذكاء الاصطناعي أنه في غضون سنوات، ستتمكن من مشاهدة مسلسل أو فيلم هو من ابتكارك الفوري بمجرد تعبئتك لمربع نص. مثلا، حين تشعر أنك شاهدت كل أفلام السفر عبر الزمن المستقلة، ولا تقدم لك نتائج متصفح قووقل سوى تلك المبتذلة والمتوقعة، قبل أن تشعر بالإحباط وتبدأ مسلسلك المفضل للمرة العشرين، تخيل فيلما بالأسلوب الذي تريد بالحبكة التي تريد وحث الآلة على صنعها، وشاهد ماذا تنتج لك


 

بعد تجربتي الأولى لبرنامج مد جورني في الاشتراك التجريبي المجاني، أستطيع تقسيم تجربتي على ثلاث مراحل. في كل مرحلة كنت أحاول أن أحدد عباراتي بشكل أكثر دقة من المرحلة السابقة وأطور فيها من آلية إدخال "الحث". فبعد أن تغذي البرنامج بحثِّه لغويا في مربع الكتابة، يقوم بتوليد صور فنية في مجموعة أربعة صور أولية، لتختار منها ما تُحَسِّن عليه وتتوسع فيه، أو تعيد توليد مجموعة من أربعة صور جديدة، بشكل لا نهائي. وبعد كل مرحلة بطبيعة الحال، كنت أقوم فيها بتحسينات على لغتي المستخدمة في التعبير عن تصوري، ومعها اضطر لملاحظة ورفع مستوى فهمي للآلة ومخاطبتي لها وفقا لتجربتي السابقة

كنت قد نويت مسبقا التوقف عن استكشاف البرنامج بعد مرحلة الحث الأولى لانشغالي بأعمالي الإدارية. إلا أني كنت أضعف من جاذبية تلك العملية المركبة بين التغذية اللغوية والتوليد البصري، التي تصب في صميم شغفي وممارستي المهنية في الفن والكتابة. فاستمريت دون أدنى وعي بالوقت لما يزيد عن ٣ ساعات - ليس أفضل مظهر لفنان يدعي حس المسؤولية، لكنها الحقيقة. ولا أزعم أني كنت سأتوقف لولا التزامي بموعد اجتماع. إلا أن البرنامج تعطل قبل ذلك بقليل، وتوقف عن توليد الصور والاستجابة للحث عالميا، لكثرة الضغط على الخوادم من أنحاء العالم. قطعا، لم أكن وحدي في إدماني السريع ونهمي المتعطش

ولم أكن وحدي كذلك في استخدام البرنامج بشكل مباشر ومشترك. ففي النسخة التجريبية، تتشارك عشرات ومئات الأشخاص حول العالم غرف لتجربة البرنامج مجانا. ترى فيها نتائجك ونتائجهم أيضا بشكل متتالي وحيّ في غضون ثواني لكل عملية 

وأثناء مرحلتي الثانية في إدخال الحث اللغوي، بدأت ألاحظ أن أحد المستخدمين بدأ ينسخ بعض عباراتي المفتاحية. فتذكرته. لأني قبل ذلك كنت قد توقفت عند نتائجه التي لامست جانب من تاريخي لحظيا. فبين عشرات المستخدمين من أطراف العالم في تلك الغرفة والمنتجين لصور ذات ألوان براقة وتصاميم مستقبلية أو أشكال غريبة لا معنى لها، كانت صوره هو لرجال يرتدون مثل الشراشف البيضاء الواسعة المغبرّة يحاربون بالسيوف على خيولهم في صحراء. حتما هو جانب من تاريخي المعاد تدويره بصريا من قبل هوليوود.. حيث بدت نتائجه تلك نمطية ورتيبة أيضا تشبه كل صور السينما الأمريكية عن "معركة في بلاد العرب". وتباعا، تشبهها في كم الإغراء الغاوي المرتبط بكلمتي "آراب" و "آرَيبيا" لغويا تاريخيا.. التي لا بد أن استلهمت منهما الآلة نتائجها تلك

ثلوثين/ مدجورني: مثلا هنا استخدمت عبارة

futuristic arab community of robots

إلا أنه حينما بدأ أسلوب صور هذا المستخدم الحالم بأمجاد العرب وشحذ السيوف، بالتغير نحو الغموض والصورة السينمائية، بدأت ألاحظ استخدامه لعبارة "أسلوب تاركوفسكي"، وبعض الأوصاف التي كنت قد استخدمتها لإنتاج مجموعة صوري الأولى والثانية. وحفزني ذلك لإلقاء نظرة سريعة على بعض عبارات المشاركين في الغرفة. الأمر الذي تجنبته في البداية، حتى يتسنى لي اختبار تجربتي الخاصة دون مؤثرات خارجية على اختياراتي الذاتية وما أنتجه 

فوجدت أن بعض المستخدمين يخفون عباراتهم. فلا يمكن أن ترى سوى صورهم المنتجة تحت اسم المستخدم. دون ظهور الحث اللغوي المدخل

وهو أمر يستدعي التفكير

يذكر ديفيد هولز، مؤسس مدجورني، أن مدجورني تتميز بأنها عملية تشاركية اجتماعية.. ولذلك هي موجودة ضمن مجتمع دسكورد (برنامج تواصل اجتماعي صُمّم في الأساس لمجتمع ألعاب الفيديو). لأنه يرى أن البشر يحبون صنع الأشياء بشكل تشاركي. فحين يكون الشخص ضمن مجتمع، فهو يستقي منه ويتعلم من تقليده ومحاكاة أسلوبه. وهي استراتيجية ذكية من المؤسسين لاختصار زمن تطويرهم للآلة، بقصد أو غير قصد، من خلال تسهيل إتاحة التقليد بالمشاركة وبالتالي تسريع تعلم مستخدميها. ويرى هولز أن مدجورني تبشر بظهور جماليات (أو أنماط بصرية) جديدة غير مسبوقة جراء التقليد والابتكار على مستوى واسع ومتتابع. يقول

ترى الجميع يقلد بعضهم البعض، وينتجون كل هذه الجماليات الجديدة. يكاد البرنامج يكون مثل المسرّع الجمالي. وهي ليست جماليات الذكاء الاصطناعي. إنها جماليات بشرية جديدة ومثيرة للاهتمام، والتي أعتقد أنها ستنتشر في العالم

إلا أن بعض الأشخاص يصل إلى مرحلة في الإنتاج لا يرغب أن يقلده فيها أحد. فيخفي أثره اللغوي

فحين تتحول حرفة صنع صورة فنية إلى حرفة لغوية محضة، نجد أنفسنا وصلنا لمرحلة يتساوى أو يتقارب فيها الفنان وغير الفنان في الإنتاج البصري (ظاهريا) لشيوع استخدام اللغة أكثر من الفن البصري بين الأفراد كوسيط للتواصل. فإذا نويت تطوير مهارتك في توليد صور فنية، باستخدام تقنية هي لغوية ومعرفية في جوهرها، تبدأ بالاعتماد على معرفتك بشكل عام، وعلى ذكائك اللغوي بشكل خاص. بل على كيفية وسرعة استجابتك لفهم الآلة وآلية مخاطبتك لها. وهي مهارة جديدة يقول عنها بوب شيرادن، مدير فني ومصمم لا يزال يحاول يفهم موقعه من هذه التقنية الجديدة والمثيرة التي تحفها المخاوف

ينبغي أن تكون مطّلع على المستجدات بشكل دائم، وأن تحاول التأقلم معها، بل وأن تكون في الطليعة. لأنه من غير الممكن التصدي لمثل هذه التقنيات

وهؤلاء الذين هم في الطليعة، يلجأ البعض منهم للتوقف عن مشاركة عباراتهم على الوضع العام. لاسيما بعد ملاحظتهم لتحسن إنتاجهم البصري المشترك مع الآلة ورضاهم على ما يبدو عن أدائهم، كما يحق لهم. فقد بذلوا جهدهم ووقتهم في تعلم تلك اللغة الجديدة والشديدة السرعة فيما يطرأ عليها من تغييرات إيجابية وسلبية. وهو ما يميز نتائجهم عن المبتدئين أو العامة. وتصبح اللغة هي أسلوبهم الجديد في إنتاج تحف فنية بصرية تستدعي التوقف والتبصر

ثلوثين/ مدجورني: حين يشعل حبر الكتابة الخلايا العصبية

فإن كانت حرفتهم الفنية اليدوية في الرسم تم تحديها (بشكل غير مباشر) من قبل الآلة وصانعيها وكل من رغب في استخدامها.. فإن تملكهم لمعرفتهم اللغوية في مخاطبة الآلة من خلال حثها لغويا بشكل سري، هو ما يرد لهم بعض التفرد والسيطرة على كيانهم الإبداعي

بل إن الحث اللغوي بات فن قائم بذاته في هذا الوقت الوجيز. حيث قام البعض بالمتاجرة بعبارات وحِيَل الحث اللغوي، حتى بادرت شركة أطلقت على نفسها اسم

Promptbase

بالسماح لمهندسي عبارات الحث اللغوي ببيع عباراتهم من خلال متجرها الإلكتروني، بمبالغ تتراوح من دولارين إلى خمسة دولارات، ولشركة پرومتبَيس منها ٢٠ بالمائة

إلا أن صفحات الإنترنت كذلك، وبالأخص غرف ومنتديات مستخدمي برنامج مدجورني وغيره من البرامج المشابهة، مثرية بمشاركاتهم مع بعضهم البعض، وبالأخص المتقدمين مع المبتدئين، لأساليبهم والطرق المختصرة لتحقيق صور فنية متقدمة ودقيقة الوصف من خلال آلية إدخال الحث. فبعد تجاربي الذاتية في البرنامج، بدأت أتصفح مشاركات المستخدمين، وأطبق بعضها، ولاحظت القفزة النوعية في جودة ودقة صوري المنتجة من بعدها

قد لا تستغني البشرية عن الفنان لصالح مدجورني أو دالـ-ي. فليست أي منهما الآلة الأولى التي تقوم بعمل جُبِل عليه وأتقنه وتمرس فيه البشر لمئات وآلاف السنين

فمثلما أن السيارة لم تطوِ مهارة تنقل الإنسان على قدميه، بل سهلت عملية التنقل له، وفتحت المجال لإختراعات عديدة من بعدها في النقل والمواصلات

والتدوين بأشكاله لم يطمس مهارة حفظ الإنسان لقصيدة أو سورة من القرآن، بل سهلت عليه الاستزادة من المعرفة في كافة العلوم من كافة الثقافات والأزمان، ومهدت لصناعات ومجالات في الكتابة والنشر والفنون والاقتصاد

وكذلك برامج الذكاء الاصطناعي، لن تحتكر مهارة الإبداع البشري، بل ستبني مجالات من الصناعات، وتحولات جديدة في أسلوب تفكيرنا ورؤيتنا للفن وتنظيرنا حوله. مثلما أحدث التصوير الفوتوغرافي تحولات في الفن ونظرة الفنانين، وتغيير أسلوبهم من الواقعي الطبيعي إلى التجريدي والسريالي الخ

بل لها القدرة على خدمة الفنان أكثر من تهديده. فبإمكان المصمم والفنان أن يختصر ساعات طويلة من عمل مسودات أو خلفيات دقيقة لأعماله، بتعلم الحث اللغوي وإنتاجها في ثوان

ثلوثين/ مدجورني: الآلة من نواة الإنسان، أم الإنسان في نواة الآلة؟

كما إن الكم الهائل المنتج كل يوم، بل كل دقيقة، من الصور التي يتم توليدها عبر هذه البرامج، كفيلة بأن تعيد صياغة الذائقة البصرية للفنان والمستخدم العادي. خاصة وأن لكل برنامج تفضيلاته وطابع فني معين تستطيع تمييزه مع زيادة استخدامك له. فيذكر ديفيد هولز أن لبرنامج مدجورني نمط فني افتراضي تم تطويره

حتى بات له أسلوب حالم وتجريدي وغريب بعض الشيء، ويميل إلى مزج الأشياء بأسلوب قد لا تطلبه منه، بطرق مدهشة وجميلة. ويميل إلى استخدام الكثير من الزرقة ودرجات البرتقالي. كما أن له بعض الوجوه المفضلة أيضا. فإذا أعطيته تعليمات غاية في الغموض، يلجأ إلى مفضلاته. ومثلا، ولا نعرف سبب حدوث هذا، لكن هناك وجه امرأة معينة يكرر توليدها - لا نعرف من أين أتت بالضبط، حتما هي من إحدى مجموعات البيانات التي تدرب عليها - ولكن المستخدمين باتوا يطلقون عليها اسم الآنسة جورني

إلا أن هذه البرامج لا تخلو طبعا من المشكلات التي تلحق البشر. أولها مسألة حقوق الفنانين والرسامين. فقد تسببت هذه البرامج بتهيج الرسامين في الأمريكيتين وأوروبا، لاسيما المشهورين منهم على تويتر بسبب انتاج المستخدمين لصور بأسلوبهم. فعندما تضيف ببساطة عبارة "أسلوب الفنان الفلاني" على الحث المدخل، تستطيع أن تنتج صورة تقريبية بأسلوبه. كما أن التجارب والتدريبات التي أجراها المبرمجون على هذه البرامج تطلبت تغذيتها بمجموعات بيانات عن الفن وأسماء لآلاف الفنانين المتوفين والأحياء حتى يختبرون قدرة الآلة على المحاكاة الفنية. فمبرمجو البرامج هذه لا يرغبون في أن ينتج البرنامج صورة واقعية.. "وإلا اكتفينا بمحرك قووقل"، كما يقول هولز

وبالرغم من قيام المبرمجين بحجب توليد وجوه بشر حقيقيين، حرصا منهم على حفظ خصوصية الأفراد والتزاما بقوانين الإنترنت العامة، بالإضافة إلى حجبهم عوالم من العبارات المسيئة ذات دلالات العنف وغيرها، وحظر أو التهديد بحظر المنافين لتلك القوانين المعلنة عند قيامك بالتسجيل، إلا أن هناك نتائج مروعة وبشعة للغاية صنعها بعض المستخدمين والتي لا يمكن أن تنساها بسهولة على حد قول من تجرأ وبحث عنها. وتلك النزعة في نفس البشر لاختبار أبشع المواقف، هي الخطر الحقيقي لأية مخاوف مرتبطة بالذكاء الاصطناعي أو أية تقنيات يصنعها الإنسان

كما تتضح مشكلة اعتماد هذه التقنيات على الذخيرة المعرفية المفتوحة في الإنترنت والمتحيزة للغة الإنجليزية والثقافات الأوروبية عند محاولة الكتابة بلغة أخرى أو من منظور ثقافة أخرى

ما أثار فضولي أيضا، هي العوالم الافتراضية الناطقة باللغة العربية، وبالذات السعوديين والخليجيين منهم في انستقرام. فغلب على مشاركة الكثيرين وخاصة في الأيام الأولى لانتشار صداها في منطقة الخليج، صور منتجة باستخدام أبيات شعرية معروفة لشعراء معينين. وكان من بينهم الشاعر محمد الثبيتي والأمير بدر بن عبد المحسن

ولا أعلم إن جاز إيعاز ذلك لعنصر التقليد - مشاركات أحد المستخدمين حفز من تلاه على تكرار استخدام أبيات شعر منسوخة لشعرائهم المفضلين.. أو إلى عنصر كوننا أفراد مجتمع سردي بامتياز يعشق الشعر والنثر ويفهم الفن اللغوي أكثر من الفن البصري لقربه من الوجدان الجمعي ولطبيعة تكويننا وتطورنا الثقافي الاجتماعي

لكن حين قمت بتجربة استخدام اللغة العربية في برنامج مدجورني لكتابة هذا المقال، بدت لي الآلة وكأنها ذاك الأمريكي بفكره أُحادي البعد، الذي سألني في أول يوم لدورة تنفيذية حين علم أني من السعودية، “إذن، لا بد أنك تجيدين الرقص الشرقي

مثلا، هذه ثلاثة صور من مدجورني، والمجموعة الوحيدة التي أدخلت فيها الحث باللغة العربية، وكان حرفيا كالتالي:

فتاة شعرها طويل وبنفسجي تقود دراجة هوائية

لكن الذكاء الاصطناعي، بتحيّزه لما جمعه عن أهل اللغة العربية وثقافاتها المجاورة من فضاء الإنترنت، تجاهل كل الكلمات الوصفية وغطى الفتاة ووضعها أقرب ما تكون لبيتٍ تقرّ فيه، وجرّدها من التنقل على دراجتها الهوائية وشعر بنفسجي طويل متطاير. بل وفي إحدى النتائج، جرد الصورة من كيان الفتاة ذاتها


 
 
Previous
Previous

٦ حكايات عن الأدب العربي الحديث

Next
Next

الإقامة الفنية: من أستراليا إلى السعودية