للجدران أذان
كتابة باسل إبراهيم
اعتدت وبشكل متكرر أن ارتاد ذلك المقهى، وفي كل مرة أجد اختياري يقع على نفس الكرسيّ بذات المطلّ على تلك العِمارة. وشاكرةً، بادلتني جدران العمارة الحب أن ألهمتني كتابة هذه المدونة البسيطة.
للجدران أذان، مقولة نقلها الزمن مسافرةً بمركب الشفاه من أسلافنا إلينا. قد يختلف معناها حسب السياق، لكنها بشكلٍ أو بآخر تُستعمل كنايةً عن عدم إفشاء الأسرار أو التحدث بشكلٍ سيئٍ عن أحدٍ قد يكون ذا سلطةٍ أو نفوذ. غيّر الأديب غازي القصيبي -رحمه الله- جزءًا ثقيلًا من مفهومها، حيث نصح بأنه لو تغيرت هذه المقولة واستُبدلت الأذانُ بالأقلامِ التي يكتب بها الملائكةُ مراقبين، فإن جيلًا جديدًا سينشأ يراقب الله أكثر مما يراقب الناس.
أرى أنه لو كان بإمكان أديبٍ آخر أن يأخذ المقولة بعيدًا عن الناس وعن المراقبة والتوجس، ويُجرّدها من الأذانِ والأقلامِ والكتابةِ و(نقل العلوم)؛ لكانت المقولة ستُسهم في تعميق علاقة الناس بالجدران، ولا تُنفرهم منها. وكون الجدارِ (وإن تشكّل ببنيان) أساسًا في حياة البشر، فإن خلقَ هذه العداوةِ أمرٌ لا يُعدُّ صحيًا للطرفين.
للمَزارعِ جدرانٌ تحمل لأصحابها حبًا وتعمل عونًا، وتتصدّى لشمسهم مولّدةً ظلًا يستظلون به. وللمقاهي جدرانٌ تجمع أحبةً وأصدقاءَ بكل ما يحملون من مشاعرَ ويتبادلونها. وللبيوتِ كذلك جدرانٌ تلمُّ شملَ عائلةٍ ساعيةً بلا مجهودٍ أن تجمع بينهم حبًا وأُلفة، حافظةً لأسرارهم. ومع كل ذلك، يرى أحدهم أن للجدرانِ أذانًا وليس لها قلب!
إذًا، للجدرانِ قلوبٌ، وللبناياتِ جدران. ولأني لا أجد تفسيرًا واضحًا لعلاقتنا بالجدران والبنايات، أختار دومًا هذه العبارة، وأترك للمستمع اختيار تفسيرها كما يرى، حريصًا على أن يُجرّدها من أذنيها.