بِرجِل: سلسلة تدوينة بصرية

كتابة وتصوير بدر العيسى


يشاركنا بدر العيسى في المدونة تأملاته حول أثر أعمدة الكهرباء على الذاكرة والبصر. من خلال نصين وصور من سلسلته “برجل ١” و”برجل ٢”، نقترب من فهم لماذا يرى فيها برجلًا عملاقًا يقف بين الصناعة والطبيعة


برجل ١

في فضاءِ الصحراءِ الممتدِّ، تقف أعمدةُ الكهرباءِ كبرجلٍ عملاقٍ، إبرتُهُ مغروسةٌ في الرمل، ترسمُ دوائرَ المستقبلِ بخطوطٍ من الحديدِ وأسلاك. تتقاطعُ مع مساراتِ الإنسانِ الذي اعتادَ قراءةَ النجوم، فصارَ يقرأُ إشاراتِ الحضارةِ في سماءٍ مشوَّهَةٍ إلا قليلاً.

لم تكنْ هذه الأعمدةُ أبدًا مجرَّدَ هياكلَ معدنية، بل شواهدَ على حوارٍ صامتٍ بين الإنسانِ والطبيعة، ذلك الإنسانِ الذي حملَ طموحَهُ فوقَ الرمالِ، وسعى لأن يُنيرَ ليلَهُ كما أنارَ نهارَهُ. تبدو كمسافرينَ غرباءَ في أرضٍ لم تألفْهم. جذورُهم من حديدٍ لا يعرفُ معنى الأرضِ، وأجسادُهم تصدحُ بطنينِ الكهرباءِ بدلًا من همسِ الرياحِ. ورغمَ هذا التباينِ، أصبحوا جزءًا من المشهدِ، كما اندمجتْ قوافلُ الماضي ذاتَ يومٍ مع كثبانِ هذه الأرضِ.

وفي المستقبلِ، قد تتحرَّرُ الصحراءُ من هذه الخطوط، حين تُستبدلُ الأسلاكُ بتياراتٍ خفيَّةٍ تتنقَّلُ في الهواءِ، أو حين تغدو الشمسُ مصدرًا وحيدًا للطاقةِ، فتعودُ السماءُ إلى صفائِها الأوَّل. لكنْ إلى ذلكَ الحينِ، ستظلُّ أعمدةُ الكهرباءِ شاهدةً على قصَّةِ الإنسانِ الذي امتدَّتْ يدُهُ لترويَ ظمأَهُ إلى النورِ، حتى في أكثرِ الأماكنِ نقاءً.

برجل ٢

لا تزالُ قصَّةُ التضادِّ بين الطبيعةِ والحداثةِ ممتدَّةً عبر صراعاتٍ متعدِّدةٍ. وهنا، لا أسعى أبدًا إلى تسليطِ الضوءِ على مشكلةٍ بعينِها، بل إلى الانفتاحِ على أسئلةِ الإنسانِ الوجوديَّةِ…

عن اليومِ، عن الغدِ، وعن معنى العبورِ بينهما…

في ملامحِ الحداثةِ حين تتقاطعُ الصناعةُ مع الترابِ، وتتداخلُ الحكايةُ مع أرضٍ ضاربةٍ في عمقِ الزمنِ منذ آلافِ السنينَ، يبدأُ الخيالُ بالتشكُّلِ كمدخلٍ للتأمُّل.

…وهنا يتجلَّى التحدِّي

كيف نتصالحُ مع هذه الأرضِ؟ كيف نلتمسُ دربًا أكثرَ واقعيةً للتغييرِ، يحفظُ للإنسانِ عطاءَهُ، ويصونُ للبناءِ استمراريَّتَهُ دون انقطاعٍ؟

في هذه الرحلةِ، دُهِشتُ حينما رأيتُ الأعمدةَ المدجَّجةَ والمتراصَّةَ كأنها جنودُ التطوُّرِ، شامخةً بثباتِها، تلفحُها حرقةُ الشمسِ دون أيِّ انتباهٍ.

وأعلمُ جيِّدًا أني قد مررتُ بها وبهذه الأرضِ مرارًا من قبلُ، لكني لم أفهمْ هذا المنظورَ، الجديدَ بالنسبةِ لي، عن هذه الحكايةِ المتضادَّةِ الواقعيَّة.

وحتى الآنَ، لا أعلمُ ماذا يدورُ في تلك الدهشةِ العميقةِ، وأشعرُ بالتناقضِ في كلِّ فكرةٍ تطرأُ من هذا التداخلِ…


وإلى هذه اللحظةِ ما زلتُ أُتمتم…


بدر العيسى

بدر العيسى، فنان ومصور سعودي ومؤسس “تليد”، يستكشف من خلال عدسته العلاقة بين الإنسان والمكان في جزيرة العرب. يحمل بدر درجة الماجستير في نظم المعلومات الإدارية، ويعتمد في ممارسته الفنية على التوثيق والبحث البصري والكتابة والتركيب الفني

@badraleissa :انستقرام

Next
Next

قضى الله الرياح