السامري: إشاحة النظر عن الحياة
كتابة رؤى سلطان
عندما شاهدتُ لأول مرة أداءً حيًا لرقصة السامري، لم يكن أمامي إلا أن أتطلع إلى مشهدٍ تجسيدي لفراق الأحبة.
ظلت عيناي مشدودتين تراقبان حديثَ الجسدِ، وروايةَ القصةِ عبره.
بتواترِ القصةِ وتفاعلِ الفنانةِ معها، بدأت دموعي تطفو على ظهرِ شنطتي البيضاء.
لم أفهم كيف أمكنَ لرقصٍ شعبيٍّ وأداءٍ فنيٍّ أن يُهيّضَ مشاعري بهذه القوة.
أفكر الآن بأنها كانت لحظتي الأولى التي أشاهد فيها امرأةً ترقص وتستدعي بداخلي كلَّ قصصِ الحبِّ التي عرفتها.
إمكاناتُ الجسدِ في التكوينِ والحديثِ، في السردِ والقصِّ، في تجييشِ المشاعرِ والأفكارِ، كانت بلا شكٍّ سبيلًا مبتكرًا وتجديدًا لرغبتي في أن أعبّر عن نفسي، عن ذكرياتٍ خزّنها جسدي منذ سنينَ ولا مجالَ للإفصاحِ عنها إلا بتحركِ الجسد.
تكرارُ المشهدِ أو إعادةُ تذكّرِ ما تبقى منه…
أربعُ دقائق.
كانت أربعَ دقائقَ، المدةَ التي رقصت فيها شريفة الزياني في مساحةٍ رسمتْ خطوطَ مسرحِها الافتراضي وتحركتْ فيما يقارب 16 مترًا مربعًا. جمهورُنا المُنتقَى يراقب كيف تتلبّس الفنانة كلَّ شعورٍ يغنيه فيصل السعد. المغني رجلٌ، نسمعُ سرديةَ القصةِ منه، ونُصعَقُ بهدوءٍ كاتمينَ دهشتَنا من شاعريةِ شريفة – ولا نعرف أيهما الفنُّ؟ من القاصُّ؟
أفتتنُ حصريًا بعناصرِ اللباسِ في السامري. أفكرُ في رمزيةِ الشيلةِ ووظيفتها، فهي عنصرٌ أساسيٌّ فيه مثلما وجودُ الحزامِ أو ربطةِ الخصرِ في الرقصِ المصري. لكن لماذا الشيلة؟ ما الذي تضيفه من قيمةٍ مقارنةً بربطةِ الخصرِ في الرقصِ المصري؟ في حالةِ الربطةِ، نفهمُ أنها طريقة للفتِ النظرِ نحوَ مهاراتِ الفصلِ بين حركتي الجزءِ السفليِّ والعلويِّ من الجسدِ، وقدراتِ الراقصةِ على التحكم. بينما الشيلةُ هنا تغطي الشعرَ والوجه. في بعضِ المشاهدِ المسجلةِ، تميلُ النساءُ لتغطيةِ قسمٍ يسيرٍ من الوجهِ، وأثناءَ حركةِ التمايلِ لليمينِ واليسارِ، يَظهرُ لنا الجزءُ الآخرُ من وجهِ المرأة. لا أستطيعُ أن أتجاوزَ بسهولةٍ رمزيةَ هذا الإخفاءِ المتعمدِ تارةً والكشفِ تارةً أخرى
يستدركني تسليطُ الضوءِ على الجسدِ وحده. نحن هنا لا نرى أيَّ تعبيراتٍ للوجه، فهو مغطّى بشيلة تتفاوتُ خِفّتُها وشفافيتُها.
الوجهُ مخفيٌّ، تعابيرُه غيرُ مرئيةٍ، ما الذي يحاولُ الإخفاءُ قولَه؟
عينا الراقصةِ، شفاهُها واضطرابُهُما، لا مجالَ لتحسّسِهما هنا – في الوجهِ الذي تفضحُ أجزاؤه ما لا يمكنُ أن يُقالَ – إذ يُتركُ للجسدِ مهمةُ الكلامِ، للتمايلِ الخفيفِ، لحركاتِ اليدِ والقدمِ. تتابعُهما بسلاسةٍ مدروسةٍ للكشفِ عن مكنوناتٍ مستترةٍ دونَ الحاجةِ للإفصاحِ.
قد ترمزُ الشيلةُ إلى الخصوصيةِ التي تُحدّدُ المرأةُ مداها. فهي رغمَ إخفاءِ ملامحِها وما يستجلبُه الإيقاعُ من تعابيرَ، تمنحُها الحقَّ في اختيارِ ما تكشفُه. في الوقتِ ذاته، تمثلُ نافذةً تُطلُّ منها على العالمِ المحيطِ بها، تراقبُه وتقرأه، بينما تبقى هي وحدَها من يُحدّدُ من يقتربُ لدواخلِها؛ إذ في التأرجحِ بينَ الحجبِ والإظهارِ تُشحنُ لحظةُ انتظارِ كشفِ الوجهِ والشعرِ بفضولٍ وجاذبيةٍ متزايدةٍ.
المعنى ينامُ بعيدًا.
ترى الشاعرةُ الأمريكيةُ دنيس ليفرتوف بأن المهمةَ الأسمى للشِعرِ هي “إيقاظُ النائمين بوسائلَ أخرى غيرَ الصدمةِ”، وأفكرُ بإمكانيةِ توظيفِ المبدأِ نفسه على بقيةِ الفنونِ. عن لحظاتِ الصحوِ المباغتةِ التي قد يُحدثُها نغمٌ ما، ويدعونا للحركةِ على إيقاعِه
أتأملُ بغرابة التجربةِ التي شاهدتُها، ويلفُّ شريطُ الذكرياتِ جميعَ الأفراحِ التي حضرتُها، فالرقصُ فيها غالبًا يُفهمُ في سياقٍ واحدٍ: الغبطةُ والسعادةُ. أستدعي نفورًا ذاتيًا تكوَّنَ في مرحلةٍ معينةٍ من حياتي، حول الرقصِ على أغاني حزينةٍ وفراقاتٍ وعذاباتٍ، دون أن تكونَ لهذه الصبغةِ أيُّ علاقةٍ بممارستنا نحوه. هل هناك توقٌ كبيرٌ للانجرافِ والتعبيرِ عن السعادةِ والاكتراثِ باللحنِ؟ هل اللحنُ والموسيقى هما ما يحركاننا؟ إذ أمامَ جمهورٍ من الناسِ تجفلُ وتسوغُ الآلام؟
صادفَ في اليوم التالي من رقصِ شريفة أن تحدثتُ مع زميلةٍ فرنسيةٍ حضرتْ الأداء، لتخبرني بأن ما شعرتُ به يشابهُ التنويمَ المغناطيسيَّ والهدوءَ والسكينةَ. شاركتُها فورًا وبحماسةٍ أن هناك معنى لم يُنقلْ لها بسبب الكلماتِ التي رقصتْ عليها شريفة؛ لأن هذا المعنى تحديدًا هو ما جعل الحزنَ والقشعريرةَ تسيطران عليّ.
أتساءلُ إن كنا جميعنا استحلنا أجانبَ، نلقي بالكلماتِ جانبًا، وننشدُ للموسيقى واللحنِ فقط؟
إلا أن هذه الفكرةَ قابلةٌ للاستثناءِ في حضرةِ بعضِ المواقفِ، إذ تختبرُ النساءُ في الأعراسِ صورةً أخرى من التعبيرِ. أحسبُ أن أفراحَ القبائلِ تحملُ معنىً مبطنًا، إذ إنَّ “اللعب” فيها يبررُ التنفيسَ عن اللوعةِ. تُهَيِّضُ أغنيةٌ مثل “راوية يا حلالي” مشاعرَ إحدى نساءِ القبيلةِ عندما تصدحُ في القاعةِ. يترقبُ الجميعُ لعبَ أم فلانٍ عليها، بينما تبدأنَ نساءٌ أخرياتٌ بالتأففِ من اللعبِ التراجيديِّ الذي ستضفيه أم فلانٍ على الكوشةِ. تفعلُ الأغنيةُ فعلتها، فيصيبُها التعبُ من الرقصِ.
هل كانت فقط ترقصُ؟ أو تنفِّسُ عن وجعٍ ما؟ ولماذا تثيرُ أغاني بعينها حزنًا فاضحًا لا يُعيرُ انتباهًا للمناسباتِ السعيدة
هدى حسن تُعيد المعنى
لا يأخذُنا الرقصُ إلى أماكنَ لا نعرفُها، بل يقودُنا برويّةٍ إلى دُروبٍ عَمدًا نسيناها. في محاولةٍ لتعريفِ الرقصِ، يصفُه بعضُهم بأنَّهُ حركاتٌ لغرضِ التواصلِ، ولا أهميةَ للموسيقى والكلماتِ فيه. أيضًا، يرى بعضُ الباحثينَ أنَّ الرقصَ تعبيرٌ جسديٌّ فقط، وآخرونَ ينظرونَ إليه باعتبارِهِ تعبيرًا روحيًّا يتمُّ بواسطةِ الجسدِ.
أحاولُ الآنَ أنْ أُقارِبَ بينَ تلكَ النظرياتِ وأعيدَ تصنيفَها. الفئةُ التي تُهمِّشُ دورَ الموسيقى والكلماتِ لا يمكنُ لها أنْ تؤمنَ بالتعبيرِ الروحيِّ له، أو أنْ تحمِلَ الرقصَ أكثرَ مما يحتملُ. أستطيعُ أنْ أفهمَ وأتلمَّسَ الوجودَ الواقعيَّ لتلكَ النظرياتِ، فالرقصُ، رغمَ قِدَمِهِ تاريخيًّا، يتسعُ لكلِّ تلكَ التأويلاتِ والمعاني ويتعاملُ معهُ البشرُ بطرقٍ مختلفة.
أُشاهِدُ مقاطعَ من مسلسلاتٍ خليجيةٍ لعبَ فيها الرقصُ دورًا مهمًّا. في مسلسلِ كفّ ودفوف، تُغنّي سليمة، التي تؤدي دورَها الفنانةُ هدى حسين، أغنيةَ “أنا يا خلي ما قصّرت”. في هذا المشهدِ، تظهرُ ملامحُ سليمةَ محاولةَ الابتسامِ، بينما ترقصُ على نفسِ الكلماتِ التي سمعتُها أنا أثناءَ رقصِ شريفةَ الحيّ. الوجهُ مكشوفٌ للمُشاهِدِ، نعرفُ أنَّ سليمة تُعاني من فَقدِ ابنِها، وها هي تُعبِّرُ عن ألمِها بسلوى تذكرهُ والرقصِ. تنفردُ الساحةُ برقصِ سليمةَ الوحيدِ، فيصيرُ التعبيرُ هنا مُتَجلِّيًا شَفَّافًا. يتحولُ أداءُ الرقص السامريِّ معَ الجماعةِ إلى عُرسٍ بهيجٍ، بينما يُصبغُ على الرقصِ الفرديِّ هالةٌ مختلفةٌ.
ما الذي يحدثُ عندما ينضمُّ للرقصِ أشخاصٌ آخرونَ؟ يتكتَّمُ فيهِ الشعورُ، ويَطغى “الأداءُ”، في حينِ تُمنَحُ حريةُ التعبيرِ للمنفردِ بذاتِه. فالذي يرويهِ المنفردُ هو تناغمُهُ معَ الأغنيةِ، لا محاولاتُ الإبهارِ. يَنصبُّ تركيزُنا على شخصٍ واحدٍ، يستأثرُ بالحركةِ، وبالضرورةِ بالروايةِ.
تُغنّي سليمة: “أنا يا خلي ما قصّرت.. مير البخت فيني قصّر”، بينما تُبدِّلُ مفردةً في نهايةِ البيتِ الثاني عن الأغنيةِ التي سمعتُها بصوتِ فيصل السعد
تُردِّدُ سليمةُ: “يا اللي تقولي تهوّرت.. منهو اللي فينا تهوّر”، في حينَ أنَّ السعدَ يُغنّيها: “يا اللي تقولي تغيرت.. منهو اللي فينا تغيّر”.
أتوقفُ هنا وأتأملُ التبدُّلَ الطفيفَ الذي غيَّرَ تلقّي الأغنيةِ ووقْعَها عليَّ، يُحيلُ المعنيانِ إلى قصَّتينِ مختلفتينِ، وأميلُ بدوري إلى روايةِ السعد.
دعوة للحب
بقدرِ ما هيّضَ السامريُّ مشاعرَ الحزنِ في المشاهدِ الأولى التي تعرضتُ لها؛ إلا أنه ما انفكَّ يدلُّني على سُبُلٍ مغايرةٍ تتجلى فيها تعابيرُ لا تقلُّ ثقلًا عما سبقها، غيرَ أنها هذه المرةَ تصطفُّ عندَ بابِ البداياتِ. في حفلةِ ميامي التي أُقيمت في سبتمبرَ 2024، برزتْ روايةُ حبٍّ في ميدلي مكوّنٍ من ثلاثِ أغانٍ. بخطىً هادئةٍ، تنزلُ الفنانةُ مناير (منيرة بنت عادل) درجاتِ السُّلَّمِ، ومثلما نفعّلُ خيارَ الترجمةِ عند مشاهدتِنا لفيلمٍ أجنبيٍّ، تُقدّمُ منايرُ ترجمةً شعوريةً تجسّدُ إيقاعَ الأغنيةِ. منذ نزولِها، نُراقبُ القصةَ المرويةَ مع أغنيةِ “البارحة نوم الملا ما جاني”: اقترابُ الرَّجُلِ منها، تَحرُّكِ خطواتِها بينما الأكتافُ ثابتةٌ، والخصرُ يموجُ يمينًا ويسارًا. تستمرُّ اللوحةُ الراقصةُ في نسجِ خيوطِ الروايةِ، ونشاهدُ ابتعادَ الفنانةِ عن أنظارِ الحبّ، والذي معه، تبتكرُ لمساتٍ غيرَ معتادةٍ للرقص السامريِّ، فعند مقطعِ “والعين تبكي على المحبوب وفراقه” تُفصحُ منايرُ عن وجهِها، وببراعةٍ؛ تُمثّلُ بيدِها مشهدَ سيلانِ الدمعِ.
معَ أصواتِ الغطاريفِ، تبدأُ أغنيةُ “يا متلف الروح”، لتعودَ الفنانةُ بخطواتٍ أسرعَ، ترافقُها لحظاتُ دورانٍ تهيمنُ فيها على مسرحٍ جماهيريٍّ ضخمٍ، ومعَ انتصافِها الساحةَ، تلتقي مجددًا بالحبيبِ. ثم تصدحُ الأغنيةُ الأخيرةُ “كريم يا بارق سرى” ويتزايدُ الإيقاعُ الموسيقيّ، لتكشفَ المرأةُ عن وجهِها، وتنسجمَ في رقصِ “السامري النقازي” معَ الحبيبِ بعدَ اجتماعهِما.
لا أعرفُ كم مرةٍ شاهدتُ مقاطعَ من الحفلِ، وقادني ذلك للتواصلِ معَ منيرةَ عادل، والحديثِ عن الرقصِ السامريِّ وأدائها في الميدلي تحديدًا. كان مدهشًا أن أعرفَ عن ممارساتِ منايرِ في تخليقِ صورٍ شعريةٍ بواسطةِ الجسدِ. فهي إذ ترقصُ، لا تستدعي منيرةَ نفسها، بل نساءً أُخرياتٍ. وإنْ صحَّ القولُ، فهي تتقمّصُ صوتًا آخرَ من الموجودِ فيها، وتبرزُ حضورَه. في أسلوبِها هذا تحرُّرٌ يجعلني أفكرُ في الرقصِ بصفته إشباعًا للمتعددِ فينا، كأنكَ تعرفُ أنكَ في مهمةٍ لتمثيلِ هذا الصوتِ والتعبيرِ عنه. فما أن تستنطقهُ الموسيقى، حتى يُمنحَ لفترةٍ وجيزةٍ، حيزًا من هذا العالمِ ليُشاهَدَ.