الشعر سلاح ابنة البادية
الكرم والشجاعة في قصائد: وضحى الجدعية ومويضي البرازية
كتابة إيلاف التميمي - تحرير ثلوثين
وجدي على (الشغموم) وألقف مشاحيه
وأطـب فالشعلة لو شبَّـها لي تنـارى
منذ نعومة أظافري وهذا البيت يتردد على مسمعي بلحن هجيني من جدتي فاطمة كلما شهدت أحد أبنائها يجود بيمناه لضيوفه. والشغموم هنا يعني الكريم الشجاع، والمشاحي هم الضيوف
لسان جدتي كان ولا يزال ديوان شعر يتلو قصائد نساء نجد اللواتي غرسن في الصحراء زهو أنفسهن كلما تقلَّبت مواجعهن فوق جمر الغضا. وقد سمعتها يومًا تتغنى بقصة امرأة لا يحضرني اسمها، حين أبت البقاء مع رجل يعوزه الكرم والمروءة، فتطلقت منه وتزوجت رجلًا شهمًا عزيز النفس يدعى محمد حمد. وقد أتاها طليقها متوعدًا، فقالت له
قد عضتني واعتضت فيك البديلِ
محمد ولد حمد وماله مثـيلِ
محمد ولد حمد وللضيف مدهال
وسراجهم في الليل كنه نهـارِ
وسراجهم في الليل لو ما يشبُّون
لطالما كانت هذه المشاهد تكشف لي أن الكرم والشجاعة غريزتان متصلتان بحياة البادية، مما أثّر على معايير ابنة البادية في رؤيتها للرجل، ويعزى ذلك لطبيعة البيئة الصحراوية، والبيئة الاجتماعية، والنظام القبلي السائد آنذاك. وبينما نلمس أن الاعتزاز بموضوعات الكرم والشجاعة في الشعر يهدف إلى الإشادة بها وتأصيلها في المجتمعات، فإن هناك أيضًا أسبابًا أخرى جعلت بعض شاعرات بادية نجد يتخذنها سلاحًا. وقد برزت شاعرتان في القرن الثالث عشر توثقان هاتين الخصلتين في طيّات قصائدهن
مويضي أبو الحنايا أو البرازية
تعتبر مويضي من شاعرات البادية الشهيرات، وورد أنها عاشت في القرن الثاني أو الثالث أو الرابع عشر هجريًا. عُرفت بقوة العارضة في الشعر، وبالجرأة والأنفة، والإعجاب الشديد بالبطولة والإقدام. كان بجوار قبيلتها رجل فارس يدعى علي بن رمان الخالدي، وكان كعادة أهل البادية ممن يسدل شعر رأسه على أكتافه اعتزازًا به عند الحرب. طلب منه جماعة إخوان من أطاع الله أن يقص شعره، إلا أنه رفض واعتبر ذلك إهانة له. فقبضوا عليه وجزّوا شعر رأسه. غضب ابن رمان من ذلك ونزح عنهم قاصدًا العراق، وفي طريقه مرَّ على إبل رجل يدعى عرنان البرازي من قبيلة مطير، فاستاقها أمامه من شدة ما يكابد، ولم يستطيعوا أن يدركوه حتى تجاوز الحدود التي يسيطر عليها الإخوان، ثم باع الإبل. فأعجبت الشاعرة بشجاعة علي بن رمان لعدم تحمله الضيم.
وقالت تمتدحه بهذه الأبيات
يا ونتي ونة مفاريد عرنان
تاه المـدور والمـوارد عدنـه
غدا بها الشغموم علي بن رمان
اللي على الصبيان يطـول فنـه
اختار جال الله على جال الاخوان
والرزق في يد واحد مـا يمنـه
حِـرٍ شهر من دار غبن وحقـران
وبعض النفوس الضيم ما يقبلنه
الله يعديه ازرها عالـي الشـان
عسى عجوز جابته بالف جنـه
أخذت أباعر طيب الذكر عرنـان
وباتن حريمه زادهن مـا كلنـه
وقد يستنكر البعض امتداح مويضي لمن قام بنهب إبل جماعتها، كونه تصرفًا يغيب عنه مروءة أهل البادية ونخوتهم؛ ولكن ما هو إلا شفاءٌ لغليلها وشعورها بأن علي بن رمان كان حليفًا لها ضد جماعتها، حيث قاموا سابقًا بردعها عن عادة الهجيني والغناء بإرسال رجل يدعى سلامة ليوبخها ويضربها. فقالت قصيدتها
يا سعد عينك بالطرب يا الحمامة.. ياللي على خضر الجرايد تغنين
عزي لعينك وإن درى بك سلامة.. خلاك مثلي يا الحمامة تونّـين
ولها أيضًا في حثها وإعجابها بالبطولة والفروسية، حين تصادم المدعو مخلف الدغيلبي من قبيلة عتيبة مع قوم الشاعرة فغلبهم رغم أنه كان وحده. فقالت مويضي تمتدحه
واديرتي عنها مخلف حداني
حدي الظوامي عن بيارٍ بها جم
واحـد، وخلا الدم بالقاع قاني
وابوي لو هو لاحقٍ له ولد عم
إذا انتخى من فوق بنت الحصاني
الخيل من خوفه تفرق وتلتم
ولها أيضا تمدح حمود بن ربيعان العتيبي لما رأت البرق على ديار قومه، تخاطب أختها بنّا
أخيل يا بنّا عليهم بوارق
أطلب لعل السيل بديارهم طاح
ركابةٍ للخيل ملس المعارق
نزالةٍ يوم المظاهير تنزاح
يا ليتني معهم على وسق مارق
يوم الهداوي بينهم علط الأرماح
وضحى الجدعية
اشتهرت وضحى بجودة الشعر والرأي، وكانت ترتجل الشعر في المجتمعات الخاصة والمناسبات، وتمدح ذوي الجود من قومها وغيرهم إذا رأت منهم شجاعةً ونخوةً وإكرامًا. وقد حدثت معركة بين محمد الذويبي الحربي وجماعته وبين قومها، وكان أن غدر قومها بالذويبي وجماعته، وهاجموهم على حين غرَّة. ومع ذلك، كان النصر حليف الذويبي وقومه على جماعة الشاعرة، فأعجبت بذلك وقالت مادحةً
أبديت يا عوّاد ما في فـوادي
من كنّةٍ بالصدر لو عنه تدرون
ما أهبلك ياللي للذويبي تعــادي
شيخٍ له الحضران والبدو يعنون
اخوان نورة عجّلوا بالسّــدادي
زادوا عليهم بيّحوا كل مكنون
ذيب القبالي للذيابة ينادي
مشرّعات في جراير ذوي عون
عيّنت ابن جملا وربعٍ نوادي
يا عنك ما قبل ولاهو بمدفون
سواة من ياخذ عميله عمادي
الله عليم وناقضٍ ما يعملون
ولها أيضًا حين نزلت مع قومها على مورد يُسمى أبو مغير في نجد قرب قطن، وكان محمد الذويبي قد نزل به بقومه قبلهم. وعندما شرعت في نصب بيتها المنسوج من الصوف، وجدت أكوامًا كبيرةً من الرماد حول مكان نار قد أحاطت به بقايا القهوة، حيث كانت هذه رمزًا للكرم. حتى أنه حين يُهجى أحدهم يقال له: (يا طـافي الضو، ميت النار) وفي رواية أخرى (الله يذبح نارك). فسألت عمن كان ينزل في المكان قبلهم حتى تحذِّر قومها من عودة هذا الكريم فقالت
سلام يا دارن بها الحبر منثـور
يا دار من طريا المغازي هبابـه
أبو مغير اللي من الوسم ممطـور
عشبه زمى يا زين عالي رقابـه
مير انهضوا عنه المظاهير والخور
عدٍ لأخو نوره و كلٍ يهابـه
يا سرع ما ياتي على شقة النور
الزمل يحدى والعصى في حجابه
ختامًا، سمات الكرم والشجاعة لم تندثر مع روح البادية، إنما هي باقية داخل روح الإنسان الأصيل. وقد تمكنت ابنة البادية من توثيق هاتين الخصلتين بأسلوب فني بديع أينما وكيفما حلت. نعبر عن الفخر بتراثنا وقيمنا الأصيلة، ونستمد الإلهام من التاريخ
ودائمًا
المراجع
كتاب شاعرات البادية لـ عبدالله بن رداس