لمحة حول أغنية الحب السعودية
ما أكره.. بس مو بالضرورة أحب
كتابة نوف عبد الكريم
تحريرإيـلاف
تجليات الأغنية السعودية
لطالما كانت تجليات الأغاني طيف ما إن يلعب في مداي لا يهدأ صداه ولا يختفي تردده، امتدادًا لإيمان ورغبة وحتى واجب شخصي يدفعني لالتماس ما هو أعمق مما يُقال على افتراض أن القصيدة المغناة لوحة سريالية تقرأ كيفما أردت، وتلتمس منها معانٍ خفية تضرب من خلالها أقصى توقع لمقاصد الشاعر التي هي مقاصدك وانعكاساتك الذاتية عن موضوعها. هذا التأمل الذي أستجدي فيه المعنى يضرب عِرْقًا أكثر حساسية من غيره في عقلي عندما لا أجد أي تفسير سوى أن تراكماته تدور حول ، الجذر لكل شعور، سيدة المعاني والجسر الرابط بين اللغة والإحساس:الحب.
يستمر هذا العرق النابض في تسارعه، حتى أن مفردة الحب وحدها ليست كافية، بل يتفرع منها الشعور شاملاً حب من نظرة، من طرف واحد، يقف ضده البشر، أو حتى خادع، وتستمر سلسلة التأملات التي تقودني إلى مفردات مثل: الولع، والشوق، والفراق، والحنين، وهلمَّ جرّا.
في ظهيرة يوم صيفي تذيب حرارته خلايا عقلك، تقودني خوارزميات يوتيوب إلى أغنية سعودية لطالما رددتها دون وعي مني إلا أن ذلك النهار كانت المرة الأولى التي تستوقفني معانيها لأستنتج بعدها: «الله! أغنية ليست عن الحب». كانت الأغنية «خصام الوقت» للفنان محمد عبده، من كلماته وألحانه. احتوت الأغنية في مضمونها حديثًا إنسانيًا بين الذات والذات، محاولًا فيه الفنان أن يستخدم مفردته ولحنه في هذه الحالة أيضًا لإيصال هاجس إنساني عن الحياة والآمال والخيبات.
بديل أغنية الحب
من لون حاول الامتزاج في لوحة أوسع. عودة على التشبيهات الفنية - لن أقول إن هذه الأغنية كانت لونًا شاذًا عن لوحة يطغى عليها صبغ واحد معبرًا عن شكل غنائي واحد، ولكنه في غالب الظن لون منعش لمن يبحث عن بديل. تقودني هذه الفكرة العابرة إلى تساؤلات مهمة، وأعتقد أنها رغبتي غير المحسوسة لكتابة هذه المقالة: هل هناك إذن بديل عن اللون الدارج في لوحة الأغنية السعودية اليوم؟ بعبارة أخرى، ما هو بديل أغنية الحب السعودية في مشهدها؟ هل لهذا البديل جذور أم يمكننا رؤيته في حركة الأغنية المستقلة، ولكن ليس بالضرورة في الأغنية الدارجة المتعارف عليها؟ وإن وجد هذا البديل، هل له قبول؟
في البحث عن البديل المفقود
عندما أردد أن موضوع الأغنية السعودية يجب ألا يكون حكرًا على الحب، يُفترض من ذلك أني أبحث عن بديل آخر هو بالضرورة تجربة سياسية. رغم إيماني أن المسألة أعمق من موضع مقارن ومقارن به، إلا أن التجربة السياسية الغنائية الخليجية كانت سابقة لنظيرتها السعودية بمراحل، يأتي ذلك تباعًا لعوامل عديدة، وبالرغم من ذلك لا أفترض أن يكون البديل أغنية سعودية سياسية. بالنظر إلى التركيبة الجغرافية والاجتماعية لموقع المملكة فإن نشأة وتطور شكل سياسي غنائي يعد احتمالًا بعيدًا، ليس لأن ولادة هذا الشكل الغنائي يفترض ابتداء وجود صراع بين قوتين في الواقعة الاجتماعية وهما: السلطة والمعارضة كما يشرح الباحث الدكتور سمير الضامر في مقالته: «الأغنية السياسية الخليجية: إشكالية المصطلح والبحث عن هوية»، بل أيضًا لفرض الطبيعة المجتمعية والثقافية لقيود تجعل من ولادة قصيدة سياسية غنائية بالشكل المتعارف عليه مثلًا في التجربة المصرية أو اللبنانية أمرًا مستبعدًا. ومن رأيي أعتقد أن ذلك يرجع إلى سببين: الوعي، وغياب الدوافع.
ربط البعض العامل الوعي والمكانة الاجتماعية بحالة الفقر التي تطغى على شكل الحياة الاجتماعية، مشيرًا بأن ذلك أحد أهم أسباب غياب القصيدة السياسية المغناة. من النقاط المثيرة التي تستتبع هذا النقاش، وإن كانت صحيحة في مجملها، بحيث أن جل ما يطمح إليه الإنسان في يومه هو كفاحه من أجل الأساسيات كالطعام والأمن. إلا إن الوعي بمفهومه العام حتى وإن حضرت أساسياته لدى من غرف بعلمه ومكانته الاجتماعية، كان غائبًا، لأن مشروع الدولة الواحدة لم يكن ناضجًا في مساحة جغرافية مترامية الأطراف، ولم يكن الصراع جغرافيا ضد سلطة واضحة المعالم. ومن هذا يُقرأ العامل الثاني في غياب الدافع، وهي مسألة تغلب عليها قراءتي الذاتية إلا أنها عدسة تاريخية ينظر من خلالها إلى طبيعة الأوضاع آنذاك، حيث أن التعارض أو الاختلاف مع السلطة الحاكمة المتمثلة في شيخ القبيلة مثلًا كانت ستكون ابتداء في حديث مناصحة أو اجتماع معه على افتراض أن هذه الوسيلة التي تفرضها تبعات المبايعة مثلًا، إلى جانب أن المساحة الفارغة بين السلطة والمجتمع لم تكن حاضرة بشكل كبير، حيث أن المجتمعات كانت إلى حد كبير تتمثل في قبائل تجمع بين رؤسائها وأهلهم أواصر كانت أعمق من أن يكتب الشاعر قصيدة هجاء، وإن كتبت فكان من الطبيعي أن تتداول شفهيًا بين المجتمع وهذا المعهود في تناقل الحديث، بدلًا من أن تُغنى مثلًا، وكأن الغناء في هذه التجربة أشبه بوسيلة استنجاد تمتد من حبل صوتي إلى العالم بأسره وهذا لم يتواجد بهذا الحضور المكثف في هذه الحالة.
اجتماع هذه الأسباب واتحادها بهذا التركيز قد يكون إحدى العوامل التي أدت إلى غياب الأغنية السياسية بشكلها المتعارف عليه اليوم في تجارب مختلفة، إلا أن إشارة الباحث سمير الضامر في ذات المقالة المذكورة عن حلول أغنية تضمر المعنى السياسي وتتناول مواضيع مثل الخوف، الفراق، والقلق من دهر وقدر وغيرها، هي بشكل أو بآخر أغنية عبرت عن المعنى السياسي، حيث يصف هذه الأغنيات بأنها "تحقق قناعًا مضمَرًا للمفهوم السياسي الذي كان سببًا في قلق المجتمعات الخليجية وقتذاك"... وأعتقد أن هذه القراءة لحالة الأغنية السياسية هي قراءة تتوافق إلى حد كبير مع تطلعات عدد من مستمعي الأغنية السعودية اليوم. ولكن، إن لم يكن بحثنا عن أغنية سياسية كبديل، ما هي الموضوعات الأخرى التي يمكن للأغنية أن تتناولها؟
في نقاش طريف
في نقاش طريف مع أحد الأصدقاء تطرقت لذات الموضوع، لماذا لا يمكن للأغاني السعودية أن تأخذ طابعًا آخر سوى الحب؟ معلقاً: "ليش كان هذا المجتمع ما يقدر يعيش شعور ثاني إلا الحب؟" وجاء الرد على قدر طرافة السؤال: "الشعر في ليلة شتاء قارسة أو صيف كاتمة نسيمها كل الذي يملكه الشاعر، لن يكون موضوعه سوى تكريسًا مكثفًا للشعور، للحب، سلواه وكل مطالبه بحضور إمكانيات تسمح لصاحبه بالتطرق إلى بطولات وامتيازات لغوية وإنسانية تشرح أدق شعور بأبلغ وصف ومعنى، وهي قبل كل هذا بطولاته الذاتية."
هذا التعليق وإن كان طريفًا إلا أن طرافته تحمل الكثير في حضور الحب كقضية أساسية لدى المغني والشاعر على حد سواء. الحب الطاغي على شكل الأغنية السعودية، التي تحمل في طيات موضوعها «الحب» الكثير من المعاني التي هي أبعد من الموضوع، مثل الشجاعة والرجولة والحماسة في تناول موضوع ليس ممنوعًا في ذاته بل أن كل ما ينطوي عليه ممنوع، بجانب إمكانية أن تكون القصيدة استعراضًا مشاعريًا ولغويًا لشيء عذب أو مر كالحب، ولذلك يمكن أن تكون القصيدة الغنائية متنفسًا أيضًا لأن هذه العذوبة أو المرارة هي كل الذي يحتاجه في ساعة صفاء يلقي فيها قصيدته ويشاركها مع مغني ويتحقق الربح لهما، لم العناء؟
تجارب مبتورة؟
القصيدة العربية قصيدة مغناة بالضرورة. حتى أنه قيل إن «الغناء ميزان الشعر». طابع القصيدة الغنائي يسوغ أن يتضمن موضوع الأغنية حدثًا اجتماعيًا أو قضية ثقافية أو أزمة شخصية لا تنفصل بحال من الأحوال عن البيئة الاجتماعية التي هي هاجس المستمعين، فتمتد القصيدة باعتبارها لسان حال الجمهور والشاعر على حد سواء، رغم أن القصيدة العربية امتدادًا إلى العصر الجاهلي سلكت ذات المنهج المنطلق بمقدمة غزلية بصرف النظر عن موضوعها إلا أن هذا المسلك لم يجعل من اقتصار القصيدة كوحدة متكاملة في موضوع الغزل أو الحب، وإن كانت هذه النظرة التاريخية بعيدة عن قراءة القصيدة الغنائية السعودية اليوم إلا أن مقاربات الحبيبة مع صعاب الحياة كوصف دقيق لطبيعة الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية حضرت إلى حد كبير في هذه التجربة، وإن لم تكن في تجربة الشاعر وحده، بل أيضًا في تذوق المستمع.
تتجلى تجربة أغنية محمد عبده في أغنيته «يا ضايق الصدر» عن حالة اجتماعية تتكرر على الكثير من يساهم في صناعة الأغنية تستدعي التوقف عندها وتأملها لوهلة. يُذكر في سبب كتابة القصيدة أنها عن موقف جمع شاعرها خالد الفيصل مع أحد أصدقائه الذي بدت على تصرفاته ملامح الحزن والضيقة، حينما لاحظها، بادر قائلًا: "يا ضايق الصدر بالله وسع الخاطر، دنياك يا خوي ما تستاهل الضيقة". بعدها طلب منه صديقه أن يغير مفردة «يا خوي» إلى شيء «أعذب» حتى يستمتع "بالقصيدة المترقبة، فأصبحت اليوم بالمفردة التي نعرفها: "دنياك يا زين ما تستاهل الضيقة.
قراءة هذا الحدث كمثال عن شكل مشهد كامل ليست بأكثر الخطوات الموضوعية المتخذة، إلا أن هذا التصرف -الواعي واللاواعي- لم يكن الأول في تجارب غنائية أخرى، وكأن تجربة القصيدة العربية المذكورة آنفًا في التغزل بالأنثى كأساس لمطلع القصيدة، تجذرت وأخذت شكلًا متوترًا للقصيدة والحدث الشعري ككل؛ بحيث يفترض ألا يمكنك أن تستمتع بها إلا إن كانت رومانسية بصرف النظر عن موضوعها وسياقها وتوقيت حدثها.
تجربة أكثر حداثة
في تجربة أكثر حداثة تبعث «يا ضايق الصدر» تأتي أغنية «صعب» للفنان السعودي رابح صقر ومن كلمات الشاعر السعودي فهد المساعد. يذكر الشاعر أن هذه القصيدة ولدت كتجربة شخصية أعمق من قرابة العشرين بيتًا تؤرخ حياة الطفل / الشاعر في مراحل مختلفة، إلا أنها عندما سجلت ونشرت أعيد ترتيب الأبيات وأختيرت بما يوحي أنها مخاطبة لحبيبة، فأمست ذات طابع رومانسي بامتياز.
هذا التصرف بدوره يطرح تساؤلات مهمة عن سوق الإنتاج ككل وليس الحركة الفنية الأدبية فقط، وكأن المغني أو الشاعر على إيمان أن موضوع الحب في الأغنية السعودية هو الشكل الذي يتحقق به النجاح ليس المهني فقط، إنما المادي أيضًا.
في البحث عن الأمل
بالرغم من إيماني أن هاتين التجربتين كان من الممكن أن تضفي بعدًا آخر على المشهد الموسيقي السعودي. ولكن، وإجابة على سؤال محمد عبده "وين الأمل؟"، أقول إن الرجاء في هذا المشهد الموسيقي موجود. أبحث في تجارب تقابل التجربتين السابقتين وأوثقها في قائمة موسيقية بعنوان «أبعد من حرفين». ما زالت هذه القائمة متنامية وبحاجة للكثير من البحث والتوسع والإبحار على أمل أن التجربة الحية التي تشبهنا لا تبتر.
يمكن النظر في تجربة الشعراء السعوديين ما قبل الثمانينيات الميلادية، باعتبار أن فترة الثمانينيات كانت الفترة الأهم في تغير شكل القصيدة المغناة ليس من منطلق الموضوع، بل في الأدوات الجمالية الشعرية فيمكن للقصيدة أن تستخدم أدوات غزلية كرمزية ولا تكون هي المقصودة بذاتها، وهذه القراءة تعتمد على التصور الذاتي بشكل بحت للقصيدة/ الأغنية لا القراءة بالمعنى صراحة ولذلك لا يُعوّل عليها في هذا السياق